أثارت صورة طفلين يجلسان بمفردهما على الرصيف ليلا في بيروت، وفي درجة حرارة منخفضة، موجة من التعاطف والغضب معاً على وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها صورة تختزل حال الكثير من العائلات الفقيرة المتروكة بلا رعاية أو حماية من الدولة اللبنانية والجهات المعنية. لكن موجة التعاطف هذه انتهت في وقتها ليبقى «المشهد اللبناني الكئيب» على حاله، يظلل مناطق لبنانية كثيرة يسودها الفقر والحرمان.
يوماً بعد يوم، تتعمّق الأزمة الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة ويتدهور الوضع المعيشي من سيئ إلى أسوأ. بالموازاة، يذهب المشهد السياسي الى مزيد من التعقيد ما يعدم أي فرصة انفراج اقتصادي يخفف معاناة اللبنانيين بشكل جدي ومستدام. وفي المحصلة، يتفاقم معدل الفقر (%70 عام 2022) ويزداد معه عدد المتسوّلين على أنواعهم: مجموعات منظمة أو عفوية، لم تعد تقتصر على النازحين السوريين بل تشمل لبنانيين يعانون الفقر والجوع والبطالة.
تزدحم الطرقات العامة في بيروت وضواحيها بمتسولين من كل الأعمار مع طغيان للاطفال والفتية، يتمركزون بصورة خاصة على المستديرات وعند مفترقات الطرق وتحت الجسور.
رغم الانهيار المالي وتضاؤل قيمة راتبها، تصر الشابة رلى نعمة على وضع بضعة آلاف من الليرات في محفظة النقود «لفتيان الشوارع» الذين تصادف العديد منهم على طول الطريق الممتدة من منزلها في جونية الى مكتبها في إحدى الوزارات في منطقة الحمرا. وبالرغم من أن راتبها ما عاد يساوي 150 دولاراً مع تخطي الدولار عتبة الـ41 الف ليرة، فإنها تواظب على منح هؤلاء الفتية مبلغا ضئيلا تعرف أنه لم يعد يشتري لهم «حبة علكة». تقول بغصة: «أصبحوا يعرفون وجهي وينتظرونني صباح كل يوم. أعطيهم مبلغاً ضئيلاً وأحصل منهم على دعوة محببة تمدني بالأمل والطاقة لأكمل نهاري».
قصة حسن وأخويه
«الله يخليك بس ألف ليرة» لأزمة يكررها حسن وأخواه الصغيران عشرات المرات من لحظة وصولهما الى مدخل شارع الحمرا صباحاً وحتى آخر الليل حين يأتي والدهم لاصطحابهم. وفق تعرفة الأطفال المتسولين لم يطرأ أي تغيير في قيمة الليرة اللبنانية. لا يزال مطلبهم يقتصر على ألف ليرة كانت قبل ثلث سنوات أكثر من نصف دولار.
حسن ومجموعة الأطفال المتمركزة في شارع الحمرا في بيروت ينفذون يومياً تعليمات أوصيائهم سعيا وراء «غلة» محرزة، يلاحقون السيارات العابرة يستجدون سائقها «ثمن منقوشة»، يوقفون المارة بأدعية تناسب المرضى وكبار السن والامهات وفتيات في مقتبل أعمارهن ينتظرن «فارس الاحلام». وفي فترات استراحة الشارع من الزحمة، يتوجهون الى مكبات النفايات للبحث فيها عن ألعاب مرمية او عن بقايا طعام مرمي.
يرفض الاطفال الإجابة على اي سؤال خارج نطاق عملهم. الفتيات بصورة خاصة رفضن الرد على سؤال حول تعرضهن للتحرش او التنمر، هن اللواتي يمضين القسم الأكبر من النهار في الشارع وسط الناس. شقيق إحدى الفتيات تجرأ على القول ان شبانا يحاولون التحرش بأخته لقاء اعطائها مبلغا صغيرا من المال فتستنجد به لردهم عنها.
اللعب على العواطف!
بخلاف رلى يرفض كثر تلبية سؤال المتسولين ولا سيما أن التسول أصبح الوسيلة الأسهل لجمع المال.
يعتبر هؤلاء ان الامتناع عن اعطاء المتسولين المال يحد من الظاهرة التي باتت «مزعجة» وتثير غضب العابرين وأهالي المناطق التي يزدحم فيها المستولون، بخاصة الجماعات المنظمة منهم.
تقول احدى السيدات من سكان شارع الجميزة إن عصابات منظمة تدفع بالأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة الى الطرقات لاستغلال مشاعر المتصدقين. الفتية والاطفال يظهرون بمظهر الضحية ويتذرعون بالجوع أو بالتعنيف من قبل الاهل في حال لم يحصلوا على المال، في حين كبار السن يتذرعون بالمرض او العوز والبطالة. وتذكر السيدة أنه قبل سنوات تم العثور على المتسولة فاطمة عثمان متوفاة بداخل سيارة في محلة البسطة ليتبين أنها تملك حساباً بقيمة مليون دولار في أهم المصارف اللبنانية.
وزارة الشؤون عاجزة
مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية قال لـ القبس إن الأطفال المتسولين يتم استغلالهم من قبل اهاليهم من أجل المال، مشددا على أنه لا قدرة لوزارة الشؤون الاجتماعية على ملاحقة مشغلي هؤلاء الاطفال. بل يقتصر دورنا على التوعية أو تأمين مركز رعاية لكن المشكلة في غياب مؤسسات رعاية للأطفال غير اللبنانيين.
يسخر المصدر لدى سؤاله عن الآليات الحكومية لتوفير الرعاية لأطفال الشوارع ومنع استغلالهم، يقول: موظفو الوزارة غير قادرين على تأمين احتياجات أولادهم فمن باله بأطفال الشوارع؟، مشددا في المقابل على أن الحل يكمن في انشاء مؤسسة ترعى وتؤوي الاطفال المتسولين في الشوارع، وليس الاكتفاء بتوفير الدعم الاجتماعي النفسي من الجمعيات.
التّسول آفة خطيرة أبعد من الفقر!
من المعروف أن ظاهرة التسول تشهد ازدهارا في أوقات الحروب والأزمات وهذا ما يبرر تفاقمها في لبنان حاليا. ولا تملك أي جهة احصاءات دقيقة عن أعداد الأطفال المتسوّلين في لبنان. مصدر في شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي يرد الامر إلى تعدّد جنسيّات المتسوّلين بين سوريين وفلسطينيين وأخيرا لبنانيين. لافتاً الى ان تفشي ظاهرة التسوّل يطرح تحديات كبيرة لانه يمهد الطريق لآفات اجتماعيّة لبنان في غنى عنها كالسرقة والانحراف الإجتماعي والأخلاقي وتعاطي المخدرات، اضافة لكونها تشكل انتهاكا للاطفال وتحرمهم أبسط حقوقهم بالرعاية الاجتماعية.
أنديرا مطر - القبس