سنة بعد سنة يقسو الشتاء أكثر على لبنان ويتّشح ثلجُه الأبيض بسواد المعاناة، ويتحوّل موسمُ الخير الذي تعوّدت «بلاد الأرز» انتظاره ليمطر برداً وسلاماً إلى... كابوسٍ.
كيف يعيش اللبنانيون شتاءهم القارس بعدما باتت تكلفة التدفئة «حارقة» وبعدما فقدوا ما كانوا يدّخرونه من أموال للأيام السود؟ كيف يؤمّنون قوتهم وطباباتهم في المناطق البعيدة التي تعجز بلدياتها عن فتح طرقها المغمورة بالثلج؟ هل يسعفهم موسم السياحة الشتوية في تخطي هذه الصعوبات أم أن الأزمة أكبر وأقسى على الناس من موسمٍ سياحي قصير ومحدود الموارد؟
إقتصاداتٌ أوروبية عملاقة تواجه أزمةَ تدفئةٍ وصعوبةً في تأمين الدفء لجميع سكانها مع حلول الشتاء. أنظمةُ حمايةٍ إجتماعية متطوّرة تجد نفسها عاجزةً عن مساعدة الفئات الضعيفة الأقلّ قدرة على الصمود في وجه البرد والثلوج. فكيف لوطنٍ ينهارُ وتلاشت فيه كل مقومات الدولة وفرغت خزينته حتى آخِر فلس، أن يواجهَ ضراوة الشتاء الذي بدأ يقرع أبوابه بقوةٍ؟
الإجابة تلامس حد المعضلة، والمسؤولون المحليون من رؤساء بلديات ومنظمات إنسانية ومواطنون يرفعون الصرخة عالية.
مواجهة الشتاء بـ... اللحم الحيّ
ميلاد العلَم رئيس بلدية بلدة رميش (جنوب لبنان) التي تعلو نحو 800 متر عن سطح البحر يقول لـ «الراي» إن «الواقعَ صعب جداً والناس يعانون لتأمين التدفئة بعدما وصل سعر طن المازوت إلى 1200 دولار، وهو رقم خيالي يصعب على المواطن تأمينه. من هنا عمد أشخاص من داخل القرية وخارجها إلى إرتكاب مَجازر في حق البيئة والأحراش التي تحوط بالقرية وفتكوا بالثروة الحرجية بحجة الحصول على الحطب للتدفئة ولم يتمكن أحد من ردعهم. وتواصلنا مع القوى الأمنية ووزارتيْ الزراعة والبيئة وحتى القضاء، لكن لم نتمكن من وقف المجزرة. أشجار عمرها مئات السنين تم القضاء عليها وبيع طن الحطب بـ 4 ملايين ليرة، أي أقل من مئة دولار في حين أن محضر الضبط أقل من دولار!».
ويؤكد العلم ان ثمة أهالي غير قادرين فعلاً على تأمين التدفئة، موضحاً أن البلدية «تسعى بالتعاون مع بعض المنظمات الإنسانية إلى مساعدة الأشد فقراً بينهم ويبلغ عددهم 500 بيت».
ولكن كيف يمكن لبلديات باتت صناديقها فارغة ان تؤمن مساعدات؟ يجيب: «السنة أسوأ من سابقاتها ولا سيما أن الناس أنفقوا مدخراتهم ولم يعد لديهم ما يعينهم. متى كنا نسمع في لبنان أن أشخاصاً يبيعون مصاغهم ليعلّموا أولادهم ويؤمّنوا لهم التدفئة؟ لا أحد يسلط الضوء على مناطق الأطراف. الضيعة واسعة ولا يمكننا تلبية غالبية إحتياجات أهلها وفوق هذا لدينا أكثر من ألف لاجئ سوري... قد تعوم الطرق وتدخل المياه البيوت ولسنا قادرين على حل مشكلات الشتاء».
العيش... كل يوم بيوم
في منطقةٍ جبلية أخرى في قلب جبل لبنان تقع قرية بتلون الشوفية التي تسعى بلديتُها بإمكاناتها المتواضعة جداً أن تساعد أهلها على مواجهة الشتاء الصعب. ويقول رئيس البلدية مروان قيس: «قدرة التدفئة على المازوت لمَن ليس لديه أحد خارج لبنان معدومة، وقد حاولنا بالتعاون مع محمية أرز الشوف تشحيل الأحراش التي تحوط المنطقة علّنا نستطيع توفير الحطب للعائلات للتدفئة من دون الإضرار بالبيئة. وهناك عدد غير قليل من أهل القرية ليس قادراً على تأمين التدفئة ولذا نستنجد بالمغتربين لتبنّي عائلاتٍ في الوطن، لكن تبقى ثمة عائلات ليس لديها فعلياً أي أحد، وبينهم أرامل وكبار في السن ومتروكون».
لكن التدفئة ليست العائق الوحيد في مواجهة الشتاء، ففصل البرد يترافق مع الأمراض التي يتوجب تأمين الإستشفاء أو العلاجات لها. وهذه مشكلة أخرى يقول قيس: «لقد تعاونّا مع القرى المُجاوِرة وعددها 12 لتأسيس جمعية إنماء قرى العرقوب والحرف، وإستطعنا تأمين القدر الممكن من المستلزمات الطبية للمستوصفات الموجودة في المنطقة وذلك بالتعاون مع الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية. وبتنا كذلك نرسل الوصفات الطبية إلى أهلنا المُنْتَشِرين في الخارج علّهم يستطيعون تأمين الأدوية التي تصل أحياناً كثيرة متأخرة. نحن بهذا نسعى لنسدّ حاجة الأكثر فقراً ولا ندّعي أننا نتبنى إحتياجاتهم بالكامل».
كبار السن، العاجزون، الأطفال، كلهم معرَّضون في الشتاء لموجاتٍ من العدوى وخصوصاً مع غياب التدفئة المؤاتية ويحتاجون إلى طبابة بات يصعب توفيرها في ظل غياب الطواقم الطبية عموماً عن مستشفيات المناطق البعيدة وبحثهم عن سبل عيش في مناطق أخرى. وفي ظل عدم قدرة الناس على تحمُّل أعباء العلاج مع غياب مساهمات الجهات الضامنة، وصعوبة أن تعتمد المستشفيات الخاصة تسعيرة منخفضة بعدما إرتفعت أكلاف كل المستلزمات والخدمات الطبية، تصبح المشكلة مضاعَفة، فلا تدفئة ولا طبابة بل عجْز مستشرٍ في مواجهة شتاء صعب.
«نعيش كل يوم بيومه» يؤكد قيس «وبأقل إمكانات ممكنة لنؤمّن ما تحتاجه قرانا. نستنجد بالخيّرين ونعالج الأمور حالة بحالة. لكن كل يوم أسوأ من الذي سبقه. وإذا كنا إستطعنا تأمين مساعدات العام الماضي فالأمور ما زالت ضبابية هذه السنة ولا شك أن الأمن الصحي والغذائي والإجتماعي للناس في خطر رغم مساعينا».
صرخة يأس وغضب
في بلدةٍ بقاعية بعيدة، يرفض رئيس البلدية الحديث رسمياً عما يواجهه من كوارث. وفي صرخة ألم يقول «من أين أبدأ؟ من توفير المازوت للجرّافة الوحيدة في القرية لفتْح الطرق بعد تَساقُط الثلوج في العواصف، وحال بلديتنا بالويل؟ أم من صعوبة الوصول إلى البيوت النائية لتلبية نداءات الإستغاثة بعد أن تغمر الثلوج الطرق الضيقة ويتعذر علينا تأمين الإمكانات لفتحها؟ أم من مدرسة القرية الرسمية التي هجرها طلابها بسبب إضراب أساتذتها المتواصل وعدم تأمين التدفئة للطلاب؟ أم من الطرق المظلمة الداكنة التي لا بصيص ضوءٍ فيها لا ليلاً ولا نهاراً بسبب إنقطاع التيار الكهربائي، فتتحول إلى مصائد للسيارات ولمن تجرأ على الخروج من الناس؟ الدولة نستنا كلياً وتتركنا نواجه مصيرَنا في الشتاء، وكأننا لسنا ضمن حدودها. مَن يمرض في ضيعتنا يموت في أرضه قبل أن يصل إلى أي مستشفى. وتسألين بعد كيف نمضي الشتاء».
صرخةٌ تتردد أصداؤها في الكثير من القرى فالمعاناة واحدة وإن إختلفت مستوياتُها بين منطقة وأخرى. في عكار تروي ثريا حمود وهي مديرة مشروع «ريسلوغ لبنان»، وهو مشروع تنموي لدعم منطقة عكار وتلبية بعض إحتياجاتها بالتعاون مع إتحاد بلديات السويد، أن وضع الناس في الشتاء يقارب الكارثة «الأهالي اضطروا العام الفائت إلى الإستعانة بكل ما يقع تحت أيديهم للتدفئة، من بلاستيك إلى حطب أو أوراق وأكياس نايلون، حتى أنهم لجأوا إلى إشعال أثاث خشبي في منازلهم للتدفئة. كسروا الخزائن وأشعلوها... الحرائق التي حصلت في الغابات كان بعضها مفتعَلاً من أجل الحصول على حطب، والتعدي على الغابات واقع لا يمكن نكرانه. ولكن الناس في وضعية survivor أو البقاء فهل يمكن لومهم على إعتدائهم على الأشجار؟».
معركة... الجيوب الخاوية
لسان حال الجميع أن هذه السنة أسوأ من سابقاتها، ومَن كان يملك بعض المال المدخّر وصل اليوم إلى الصفر وإزداد الوضعُ صعوبة على أعداد أكبر من العائلات.
ما من أحد قادر على المساعدة تقول حمود «لا البلديات ولا المنظمات الإنسانية، لأن الإحتياجات كثيرة والموارد قليلة. هذا الشتاء ثمة مخاوف جدية من عدم قدرة البلديات على جرْف الثلوج، لذلك نهيئ فريق المستجيب الأول الإنقاذي الذي قمنا بتأسيسه وتأهيله سابقاً ليكون مستعداً لمساعدة الأشخاص العالقين في بيوتهم تحت الثلج. البلديات ربما تكون قادرة على فتْح الطرق العامة وجرف الثلوج عنها لكن الطرق الفرعية الصغيرة لا شك ستعاني ويعاني معها الساكنون على أطرافها. نقوم بما في وسعنا لتأمين سيارة قادرة على فتح الطرق الصغيرة ومساعدة الناس في الوصول الى المستوصفات والمستشفيات. ولكن هنا تتشعب المشكلة وتكبر لأن الناس ما عادوا قادرين على الحصول على العناية الطبية الضرورية لأسباب كثيرة ليس أقلها تكلفة الإستشفاء والإنتقال للوصول إلى المستشفيات ورحيل الطواقم الطبية عن مستشفيات المناطق».
في غمرة الصورة القاتمة نسأل عن المؤونة اللبنانية التي كانت رفيقة أهل الجبال في شتائهم الطويل: هل ما زالت معينتهم في الأيام الصعبة ومَصْدَر قوت لهم؟
«مَن كان يستطيع أن يحضر مؤونة وافية له ولعائلته ما عاد قادراً اليوم على تأمين الكميات التي تعينه على عبور الشتاء مع إرتفاع أسعار كل المواد. غالبية سكان المنطقة، هم إما في الجيش أو في قطاع التعليم وكلنا نعرف حال رواتب هذين القطاعين وكم فقدتْ من قيمتها. هم الأكثر تضرُّراً. ولا شك أنهم ما عادوا قادرين على تأمين مستلزمات شتائهم من تدفئة ومؤونة. لكن لحُسن الحظّ الناس يساعدون بعضهم، وكل مَن كان قادراً يقف إلى جانب عائلته ويدعمها لتتمكن من الصمود».
رغم هذا الواقع المأسوي، يبقى للشتاء في لبنان وجه أبيض. وجهٌ سياحي ترفيهي يعود عليه بمردود مادي هو في أمسّ الحاجة إليه. المناطق الجبلية ومحطات التزلج تستعدّ لشتاء واعد، ومع بدء وصول أعداد كبيرة من السياح والمغتربين تتحضّر المناطق الجبلية للإستفادة من الموسم وإن باتت التكلفة بالكاد توازي الأرباح. ويبقى اللبناني قادراً على إجتراح معجزة البقاء مع كل طلعة شمْس أو... زخة مطر.
زيزي إسطفان - الراي الكويتية