مع بزوغ فجر كلّ عام، بدايات وآمال جديدة يتمناها الإنسان لتحسين أحواله الخاصة والعامّة. وإذا كان الوجود في تَغَيُّر دائم باعتبار أنّ التغيير هو الجوهر الأساسي في الكون كما يقول الفيلسوف الإغريقي هرقليطُس، بيد أنّ المجتمعات لا تقتنص دوماً فرص نجاتها في اقتحام المستقبل لانتشال حاضرها من أهوال الماضي. فالتغيير يُقاس بمدى نجاحه وقدرته على تجاوز العثرات من ناحية، وإيمان دعاة التغيير بأنفسهم ومدى تناسق سلوكياتهم وسياساتهم مع ذهنياتهم ومعتقداتهم من ناحية أخرى.
فيما سجّلت روزنامة لبنان الـ2022، الكثير من الأحداث السياسية والإقتصادية والأمنية والصحيّة، غير أنها شكّلت محطّة مفصلية لقوى التغيير من أجل قطاف ثمار التضحيات والنضالات التي زرعتها انتفاضة 17 تشرين عبر صناديق الإقتراع في أيار الفائت، إذ أوصلت 13 نائباً إلى قبّة البرلمان، مخترقة الدوائر الإنتخابية والبيئات الحزبية والمناطقية بألوانها الطائفية كافة، فيما وقفت عاجزة عن اقتحام أسوار «الثنائي الشيعي» المُحصّن بوحدته من جهة، وترسيخ سردية «المؤامرة» واستهداف «المقاومة» في مجتمعها من جهة ثانية. لكن الإنتصار النيابي والزهو الشعبي سرعان ما تلاشيا، واضمحلّت معهما الوعود والأحلام، فما جمعته «الثورة» على تنوّعاتها الفكرية والعقائدية والمطلبية، فرّقته الإستحقاقات السياسية، وما حجبته مِنصّات الإنتخابات من تشققات، كشفته مقاعد المجلس النيابي من تصدّعات في مقاربة الملفات، وراح «التغييريون» يتخبّطون في ما بينهم عوض مواجهة السلطة. وتوالت السقطات مع كل امتحان، من انتخابات رئيس المجلس ونائبه وهيئة المكتب واللجان، إلى انتخاب رئيس الجمهورية حيث بلغ التشتت ذروته، وتبارى «التشرينيّون» في لعبة «شعاري أقوى من شعارك» وطرح أسماء رئاسية «عن بو جنب»، رغماً عن أصحابها أو حتى من دون علمهم. ولم يقف التغيير عند هذا الحدّ، فتغيّرت كتلتهم وانسحب بعضهم، واستقال آخرون أو أقيلوا من حركاتهم السياسية. أهو تغيير في الاتجاه المُعاكس أم مخاض طبيعيّ في صيرورة التطوّر؟
في حديث مع «نداء الوطن»، تقول النائبة نجاة صليبا إن «أداء التغييريين داخل المجلس النيابي كان بالمستوى المطلوب، وإنهم حققوا نجاحات في إدارة الجلسات وطرح القوانين». وإن كان هذا العام قد سجّل، دخول «التغييريّين» إلى الندوة البرلمانية، فقد أدخل الشقاق إلى صفوفهم، مع أول استحقاق مصيري في انتظام عمل الدولة ومؤسساتها، ألا وهو الإنتخابات الرئاسية، لكن صليبا تعتبر أنه «رغم التجاذبات الحاصلة بين «التغييريين»، وترك الخيار لهم لأخذ القرار المناسب في طرح المرشحين للرئاسة، فالهدف كان لبننة الإستحقاق، وقطع الطريق على صُنع الرئيس في الخارج وإسقاطه علينا». وعن تشتّت النواب أو عدم توحيد صفوفهم في إطار كتلة نيابية واحدة، اعتبرت أن «التغييريين» لا «يشكّلون حزباً واحداً، فكل طرف له رؤيته وأسلوبه في المقاربات السياسية، وطريقة حلولها، لكننا جميعاً متّفقون على مبادئ أساسية تجمعنا ألا وهي حبّ لبنان والعمل والإخلاص في سبيل نجاته، متخلّين عن مصالحنا الشخصية والحزبية إن وجدت، لصالح الوطن ومواطنيه». ومع ارتفاع أصوات التذمّر في الأوساط الشعبية لانتفاضة 17 تشرين، أشارت صليبا إلى أنّه «لا توجد دولة في العالم استطاعت أن تنشد التغيير المطلوب في ستة أشهر»، مؤكّدة أن «التغيير داخل البرلمان سيأخذ مساره التدريجي والتصاعدي خلال السنوات الثلاث المتبقية».
أما العميد المتقاعد والباحث الجيوسياسي خليل الحلو، الذي يُعدّ من أبرز الشخصيات التي واكبت انتفاضة تشرين منذ انطلاقاتها ميدانياً وتنظيميّاً، يقيّم ثورتها وانتخاباتها وسلوكيات نوّابها بعيداً عن جلد الذات أو التبجيل، بل يطرح المسائل بواقعية وعقلانية، إذ يرى أن «الثورة التي قام بها أولاً مواطنون ناقمون على الواقع الإجتماعي والسياسي وانعدام سيادة الدولة وسلطتها، واستمرّ زخمها الشعبي منذ 17 تشرين حتى عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني، قد شهدت تقلبات ومراحل عديدة، من القمع الذي تعرّضت له من قبل «الثنائي الشيعي» وحلفائه، إلى تكوينها الفسيفسائي المعقّد من يساريين وتغييريين أرادوا أخذ الثورة إلى هواهم عبر شعارت إسقاط النظام وتحميل الطائفية مشكلات البلد، إلى مجموعة من الوصوليين، ومكوّنات رافضة للحالة الإجتماعية لكنّها أقرب إلى محور الممانعة في طروحاتها السياسية، إضافة إلى القوى السيادية». بالتالي يؤّكد الحلو أن «توحيد هذه الأطياف تحت لواء الثورة لم يكن ممكناً».
ولفت إلى أن «سرقة الثورة من قبل بعض القوى وفرض شعاراتها عبر تهميش باقي المكوّنات، بعيداً عن أعين الجماهير، إضافة إلى دخول عامل التخريب المُتعمّد والمدعوم من «الممانعة»، كلها امور أدت إلى شرذمة اللوائح الإنتخابية، وعدم وصول أكثرية تغييرية إلى المجلس. هذا التشتّت دفع العديد من المنتفضين بالعودة إلى أحزابهم والتصويت لمرشحيها».
وبالانتقال إلى المشهد النيابي، ورغم الانتقادات، يشدّد الحلو على إيجابيات النواب الـ13، إذ يرى أنهم «نجحوا في بداية الأمر بالحفاظ على تماسكهم، وفرض ذهنية جديدة داخل الهيئة العامة، إذ لم يعد بإمكان رئيس المجلس نبيه برّي، أن يتحكّم في إقرار القوانين و»تمريرها» وإدارة الجلسات كما في السابق، وإعطاء أمل للشباب اللبناني بالقدرة على التغيير ودخول الندوة البرلمانية، وإسقاط المحرّمات والمقدّسات عن النقاشات داخل هيكل السلطة التشريعية».
في المقابل، ينتقد الحلو «الخجل السيادي» عند بعض التغييرين، و»هذا أمر خطير، لأنه لا يمكن إجراء أي إصلاحات سياسية واقتصادية أو جذب الاستثمارات الخارجية، من دون دولة سيّدة قادرة على بسط سلطتها على أراضيها».
وفي ردّه على قول بعض نواب التغيير بأنهم يحافظون على «نقاوة الثورة» داخل البرلمان بعدم التعاطي مع الأحزاب الحالية، يقول: «ليحافظوا على نقاوتهم في بيوتهم، أما في الشأن العام، فالتعاون مع الآخرين هو من أصول العمل التشريعي، فكلّ برلمانات العالم تتعاون في ما بينها لتحقيق المصلحة الوطنية، كما يحصل في الولايات المتحدة حيث يتقارب الجمهوريون والديمقراطيون حول مسائل داخلية وخارجية مشتركة، كما يتنافسون ويتباعدون».
كما انتقد الحلو «ميل بعضهم إلى التعاون مع قوى الممانعة أكثر من تفاعله مع السياديين، فيكفي أن تقول «القوات» مثلاً «هذا أبيض» حتى يبادر بعضهم للردّ «إنه أسود»، ورغم سعي «الكتائب» للتقرّب منهم، نراهم يرفضون، وهذا يدلّ على عدم نضوج سياسي ووطني. ولعلّ أكثر ما وضع «نواب التغيير» هذا العام تحت سيف الإنتقادات، هو التخبّط في مقاربة الإستحقاق الرئاسي، من تشتّت الأصوات وغياب الرؤية وعدم الإتفاق على مرشّح واحد».
في الختام، يرى الحلو أنّ «العام القادم هو امتداد للسنوات السابقة، فلبنان غارق في أزماته منذ 50 عاماً، فلا حلول تلوح في الأفق، أما عن المراهنة على حراك شعبي متجدّد، فيشدّد على أن «الشعب الجائع لا يثور، وتاريخ الثورات شاهد على ذلك»، محمّلاً الأحزاب والقوى الرئيسية مسؤولية تقاعسها، كونها قادرة على تحريك الشارع. فالثورة بلا قيادات كجسم بلا رأس».
في الخلاصة، لم يكن هذا العام، عام التغيير المنشود، صحيحٌ أنّ لأحلام الناس وانتظاراتهم تركة ثقيلة على ممثليهم، لكن «من أُعطي كثيراً يُطلب منه الكثير»، حتى بات المطلوب من النوّاب الذين دخلوا المجلس بـ13 نائباً، أن يحدّوا في السنة الجديدة من تشرذمهم بعد بروز نواة تكتل نيابي جديد أو أكثر، يضمّ أحدهم: حليمة قعقور، إبراهيم منيمنة، سينتيا زرازير، فراس حمدان، ومعهم النائب أسامة سعد، ويحظى بدعم ملحم خلف وبولا يعقوبيان. في حين شكّل إنضمام النواب مارك ضو ونجاة عون صليبا بعد وضّاح الصادق وياسين ياسين إلى تأييد المرشّح الرئاسي النائب ميشال معوض، إشارة إلى تحالف بينهم، في حين غرّد النائب الياس جرادي وحيداً، عبر التصويت للوزير السابق زياد بارود، ليختم العام انتكاسته الأخيرة بحقّ «التغييريين» مع قرار المجلس الدستوري بإبطال نيابة رامي فنج، حتى يصحّ بهم القول إنما بشكل معاكس: «الأبناء يأكلون ثورتهم».
طوني عطية - نداء الوطن