على الرغم من إعلان الإدارة السورية الجديدة فتح باب التسويات أمام جنود وضباط النظام السابق قي 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن الإقبال على هذه المراكز لا يزال محدوداً، مقارنةً بعشرات الآلاف الذين خدموا في صفوف قوات النظام المخلوع وأجهزته الأمنية، إذ يثير هذا التردد تساؤلات جوهرية حول غياب الثقة بجدية التسوية والخوف من المحاسبة.
فمع سقوط الأنظمة السلطوية تقف الدول على مفترق طرق حساس؛ كيف تتعامل مع من قاتلوا دفاعاً عن النظام السابق، خصوصاً الجنود والعناصر الأمنية الذين كانوا جزءاً من آلة القمع؟ في سوريا يبرز هذا السؤال بإلحاح مع تصاعد الحديث عن العدالة الانتقالية وإعادة بناء مؤسسات الدولة، فجنود الأسد الذين شاركوا في قمع الشعب السوري خلال سنوات الثورة أو التزموا الصمت في مواجهة الانتهاكات، يشكلون تحدياً حقيقياً لسوريا الجديدة من الناحية الأمنية والاجتماعية لا يمكن تجاوزه بسهولة.
لكن سوريا ليست وحدها من واجهت هذا التحدي، فقد خاضت دول مثل جنوب إفريقيا، ورواندا، والعراق تجارب مؤلمة في التعامل مع إرث الجيوش المرتبطة بأنظمة سابقة، وسعت كل منها لوضع مقاربة خاصة تراوحت بين العفو والمحاسبة والدمج. فما هي أبرز الدروس التي يمكن الاستفادة منها في الحالة السورية؟ وهل من طريق وسط بين العدالة والاستقرار؟
التجربة الرواندية: دمج مدروس ومصالحة عبر العدالة المجتمعية
بعد الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص خلال مئة يوم، كان على الحكومة الجديدة أن تتعامل مع مجتمع ممزق ونسيج اجتماعي مهشّم، إضافة إلى وجود آلاف الجنود والمقاتلين المنخرطين في أعمال القتل أو المتواطئين معها. لم يكن التحدي مقتصراً على نزع السلاح أو تفكيك الميليشيات، بل كان مشروعاً أوسع لإعادة بناء الثقة وتعزيز المصالحة الوطنية.
ولم تلجأ رواندا إلى الانتقام أو الإقصاء الكامل، بل اختارت مساراً وسطاً يزاوج بين العدالة والمشاركة. أنشأت الدولة محاكم تقليدية تُعرف بـ"الغاتشاتشا"، هدفت إلى فتح قنوات للحوار المجتمعي، وتحقيق قدر من الإنصاف للضحايا من دون إغراق الدولة في إجراءات قضائية معقدة وطويلة.
في الميدان العسكري، اتبعت الحكومة سياسة تدقيق شاملة سمحت بدمج نحو 10,500 عنصر من الجيش السابق في الجيش الوطني بين عامي 1995 و1997، تلاها دمج أكثر من 39,000 من أفراد الميليشيات السابقة خلال الفترة ما بين 1998 و2002. تم ذلك وفق ضوابط صارمة هدفت إلى ضمان ولاء هذه العناصر للسلطة الجديدة، وإبعاد من تورطوا في الجرائم الكبرى من دون مساءلة أو مراجعة.
وامتد هذا النهج إلى المقاتلين الأجانب، بمن فيهم أولئك الذين جرى تجنيدهم قسرياً خلال الحرب، فقد منحتهم الدولة فرصة للإقامة القانونية أو التجنيس، مقابل التخلي عن السلاح والانخراط في الحياة المدنية أو في المؤسسات الرسمية تحت إشراف الدولة.
تُعد هذه المقاربة نموذجاً لسياسة "الدمج المشروط"، إذ لم يُنظر إلى الجنود السابقين ككتلة واحدة يجب اجتثاثها، بل كأفراد يمكن إعادة تأهيلهم واستيعابهم ضمن مشروع وطني جامع، مع الحرص على أن لا يكون ذلك على حساب الضحايا أو على حساب السلم الأهلي.
جنوب إفريقيا.. بناء جيش تحت العدالة الانتقالية
بعد انهيار نظام الفصل العنصري عام 1994، كان على جنوب إفريقيا التعامل مع تحدي دمج القوات العسكرية السابقة، التي شاركت في قمع وحملات عنف ضد المواطنين السود، في جيش وطني واحد يعكس التعددية الجديدة ويرسخ السلام. لم يكن الأمر سهلاً، إذ كان يجب التعامل مع أفراد كانوا جزءًا من آلة قمعية، مع ضمان عدم إعادة إنتاج العنف أو التفرقة داخل المؤسسة العسكرية الجديدة.
اتبعت حكومة جنوب إفريقيا خطة شاملة لإعادة دمج الجنود من الجيش النظامي السابق، فقد دمجت قوات الدفاع الوطني للجنوب الإفريقي (South African Defence Force - SADF)، وقوات التحرير مثل أجنحة النضال المسلح لحركات التحرر جنبًا إلى جنب مع قوات غير نظامية أخرى. شملت العملية برامج إعادة تأهيل مكثفة وتدريبات مشتركة، إضافة إلى مراجعة للسجلات لتحديد من تورط في انتهاكات جسيمة، مما سمح باستبعاد بعض العناصر من الخدمة.
كما تم تأسيس آليات إشرافية لضمان ولاء الجيش الجديد للدستور الديمقراطي، مع التركيز على بناء ثقافة عسكرية جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان والحفاظ على الوحدة الوطنية. ورغم التحديات العديدة والصراعات الداخلية أحيانًا، تمكنت جنوب إفريقيا من خلق جيش موحد يضم أعداء سابقين، وهو إنجاز أساسي في مسيرة الانتقال الديمقراطي.
البوسنة والهرسك.. جيش وطني وسط الانقسامات العرقية
تُعد تجربة البوسنة والهرسك بعد الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1992 و1995 نموذجاً بارزاً في جهود تفكيك الصراعات المسلحة وإعادة دمج المقاتلين ضمن بنية دولة موحدة. وسط انقسامات عميقة على أسس دينية وعرقية، ومع استمرار الشروخ المجتمعية، واجهت البوسنة تحديات ضخمة في بناء جيش وطني جديد وتحقيق المصالحة الوطنية، بمساندة ودعم دولي واسع.
بعد توقيع اتفاق دايتون عام 1995 الذي أنهى الحرب الأهلية، بدأت البوسنة والهرسك بتنفيذ برامج خاصة لجمع الأسلحة وتسريح ودمج المقاتلين السابقين من مختلف الفصائل، مدعوم ببرامج تأهيل نفسي واجتماعي وتعليمي، ما ساعد على تخفيف آثار الحرب وتحفيز المقاتلين على الانخراط في الحياة المدنية وسوق العمل.
وعلى المستوى العسكري، أشرفت قيادة دولية على إعادة هيكلة القوات المسلحة، ودمج فصائل الكروات والبوسنيين والصرب في جيش وطني موحد قائم على نظام الحصص العرقية لضمان التوازن، إذ وصل عدد أفراد الجيش إلى نحو 8,800 جندي موزعين بين المكونات الرئيسية.
أما بالنسبة للمقاتلين الأجانب، فقد تم تجنيس بعضهم تحت ضغوط دولية، إلا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 أدت إلى مراجعة أوضاع هؤلاء، وفرض قيود وعمليات ترحيل على من ثبت حصولهم على الجنسية بطرق غير قانونية.
حل الجيش العراقي.. وإشعال فتيل التطرف
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 نتيجة للغزو الأميركي-البريطاني، أصدر الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمر قرارًا صادمًا بحلّ الجيش العراقي وقوات الأمن بشكل كامل، بموجب القرار رقم 2 في 2 مايو 2003. هذا القرار أدى إلى تسريح ما يقارب نصف مليون ضابط وجندي وعامل أمني، ما خلق فراغًا أمنيًا هائلًا، وترك أعدادًا كبيرة من العسكريين عاطلين عن العمل، من دون رواتب أو دعم، مما دفع كثيرين منهم إلى الانضمام إلى جماعات مسلحة متطرفة انتقامًا وطلبًا لاستعادة دورهم.
حاولت السلطات العراقية لاحقًا تدارك هذه الأزمة بإعادة تشكيل جيش جديد، ودمج بعض العناصر السابقة، خاصة من المكون الشيعي، وإطلاق برامج مثل "الصحوات" لاستيعاب مقاتلي العشائر السنية، ومنحهم رواتب ووظائف في القوات الأمنية، لكنها لم تنجح إلا جزئياً في إعادة الاستقرار، إذ عاد عدد من هؤلاء المقاتلين إلى حمل السلاح، مما ساعد على انتشار الفوضى الأمنية والاقتتال الطائفي، وانبثاق تنظيمات إرهابية كـ"داعش"، التي سيطرت على مساحات واسعة في العراق.
القرار الأميركي بحلّ الجيش العراقي اعتُبر لاحقًا خطأً فادحًا، اعترف به مسؤولون أميركيون كبار، إذ تسبب في تفكك منظومة الأمن واستغلال الفراغ من قبل الجماعات المسلحة. في المقابل أكد عدد من القادة العسكريين الأميركيين أن إبقاء هيكل الجيش وإعادة تأهيله كان من الممكن أن يقلل من الفوضى ويحد من التطرف.
ماذا عن سوريا؟
يبدو واضحا بأن تجربة العراق في تفكيك الجيش السابق من دون خطة بديلة واضحة، كانت واحدة من أكبر الأخطاء التي مهّدت لظهور جماعات متطرفة وبيئة أمنية هشة، أعادت إنتاج العنف والانقسام الطائفي، وذلك بحسب الباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة نوار شعبان، الذي يرى أن النموذج العراقي "قدّم تجربة سلبية، حيث تم تفكيك الجيش بقرار فوقي، ما أدّى إلى فراغ أمني وخلق بيئة خصبة لنشوء جماعات مسلحة وهويات طائفية مسيّسة".
لكن شعبان الذي شارك في إعداد دراسة حملت عنوان "إعادة بناء الأمن في سوريا" يرى أن الحالة السورية تختلف من حيث البنية الاجتماعية والتغلغل الأمني، ويقترح الاستفادة من تجارب أخرى مثل جنوب إفريقيا، التي طبّقت نموذج إدماج تدريجي مشروط قائم على تقييم فردي ومهني، وكذلك من تجربة رواندا، التي نجحت في تفكيك البنية الأيديولوجية للنظام السابق وإعادة بناء مؤسسة عسكرية وطنية.
ويقترح شعبان في حديثه لموقع تلفزيون سوريا عدة خطوات واقعية للتعامل مع ملف جنود الأسد منها؛
تصنيفهم إلى فئات: من لم يرتكب جرائم يمكن دمجه بعد إعادة التأهيل، والمتورطون يُحالون إلى مسار العدالة، والقيادات العليا تُعزل سياسيًا وقانونيًا، إضافة إلى إنشاء هيئة وطنية مستقلة لإعادة الهيكلة الأمنية والعسكرية، ويتم ذلك بحسب شعبان بإشراف دولي حقوقي وتقني على كامل العملية، لضمان الشفافية ومنع الانتقام أو إعادة إنتاج الاستبداد.
من ناحيته يرى الباحث في الشؤون الأمنية والعسكرية محسن المصطفى أن التجارب الدولية في إعادة هيكلة الجيوش بعد النزاعات – مثل العراق ولبنان وجنوب إفريقيا ورواندا – يمكن أن تقدم دروسًا مُلهمة لا وصفات جاهزة، لأن الحالة السورية لها خصوصيتها المعقدة.
ويقترح المصطفى في حديثه لموقع تلفزيون سوريا اعتماد برنامج متكامل لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، مشددًا على أن إعادة الدمج يجب أن تشمل ليس فقط انخراط بعض العناصر السابقة في الجيش الجديد، بل أيضًا إعادة تأهيلهم كمواطنين فاعلين ضمن مجتمعاتهم.
ويؤكد أهمية استثناء المتورطين بانتهاكات من هذا المسار، وإخضاعهم لآليات العدالة الانتقالية، مع إمكانية الاستفادة من الكفاءات التقنية والفنية التي لم تتورط في الجرائم، ضمن مشروع بناء مؤسسي جديد قائم على الكفاءة والمساءلة.