لم تبدد إعادة الانتشار الإسرائيلي على الحدود الشمالية مع لبنان، المخاوف في الداخل اللبناني من احتمالات شن حرب جديدة، لا سيما مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية شبه اليومية لاتفاقات وقف إطلاق النار الموقّع في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والرسائل الميدانية التي تحمل أبعاداً أكبر من مجرد تبديل وحدات.
وكانت إذاعة الجيش الإسرائيلي أعلنت أنه «بعد نحو نصف عام من التهدئة مع (حزب الله)، أعادت قيادة الشمال تنظيم قواتها على الحدود مع لبنان، وتعيد (لواء الجليل) للسيطرة على كامل خط الحدود». وأضافت أن «هذه الخطوة كانت مخططة منذ عدة أشهر، وكانت مرتبطة باستقرار التهدئة في الشمال»، مشيرة إلى أن «لواء 146 سيخرج في فترة استراحة وتجديد».
وكان الجيش الإسرائيلي دفع باللواء 146 قبيل الحرب الموسعة التي خاضها ضد لبنان في سبتمبر (أيلول) الماضي واستمرت 66 يوماً، وشهدت توغلات إسرائيلية في الجنوب، انتهت بتدمير جزء كبير من القرى الحدودية عبر تفجيرها وتجريفها خلال فترة الهدنة، ولم تنتهِ تداعياتها بعد باستمرار احتلال 5 نقاط يطالب لبنان المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للانسحاب منها.
لا حرب وشيكة
وقلل النائب في البرلمان اللبناني محمد خواجة من دلالات هذا التموضع من حيث ارتباطه بعمل عسكري وشيك، وقال: «ما يجري من تحركات إسرائيلية على الحدود الجنوبية، خصوصاً لجهة تبديل القوات، لا يدل بالضرورة على عمل عسكري وشيك»، معتبراً أن «من ضمن الإجراءات الروتينية التي تشمل إعادة تأهيل وتوزيع الجنود على مواقع مختلفة، سواء للتدريب أو المهام الأمنية الاعتيادية».
لكن خواجة لم يستبعد في الوقت عينه احتمال الحرب، وقال: «سيناريو الحرب الإسرائيلية يبقى قائماً في كل زمان ومكان»، مستدركاً: «إذا كانت هناك نية فعلية لشن عدوان على لبنان، فلن تقتصر المؤشرات على تبديل فرقة عسكرية هنا أو هناك».
وعن الوضع الميداني، أشار إلى أن «إسرائيل مستمرة في النهج التصعيدي نفسه منذ أكثر من ستة أشهر، من دون أن تلتزم فعلياً بأي هدنة أو وقف لإطلاق النار، رغم التفاهمات المعلنة». وهاجم دور الولايات المتحدة قائلاً إن «الولايات المتحدة، الراعي الأساسي لتلك التفاهمات، لا تحترم التزاماتها، بل تؤمّن غطاءً سياسياً للعدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان».
وفيما يتعلّق بتنفيذ القرار 1701، شدد خواجة على أن «لبنان، بجميع مؤسساته، ملتزم بشكل كامل بتطبيق القرار، على عكس الجانب الإسرائيلي الذي لم يلتزم به ولو لساعة واحدة»، مستشهداً بتقارير دورية صادرة عن قوات «اليونيفيل» تثبت الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.
وختم بالتحذير من عواقب أي تصعيد إسرائيلي قائلاً: «الوضع القائم قد يكون مريحاً لتل أبيب، لكنه لن يستمر إذا قررت خوض مغامرة عسكرية جديدة»، مؤكداً أن «أي خرق كبير سيواجه برد من الجيش اللبناني والمقاومة، ولن يمرّ دون ردّ»، وأضاف: «نحن نتابع كل ما يجري عن كثب، ومن المبكر الحديث عن حرب شاملة، لكن الاستعداد مطلوب دائماً».
إعادة تموضع
بدوره، أشار العميد المتقاعد ناجي ملاعب، إلى أن «الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية المعتمدة حالياً، التي تحظى بموافقة أميركية منذ عهد الرئيس جو بايدن، تركز على أن التهديد الأساسي يأتي من الشمال».
ورأى ملاعب أن «الخطر الأكبر في نظر إسرائيل لا يزال يأتي من لبنان»، وقال: «اطلعت على تقرير حديث صادر عن معهد أَلما الإسرائيلي، يشير إلى أن (حزب الله) أعاد هيكلة تنظيمه العسكري، ونجح في إعادة تشغيل مسارات تهريب السلاح عبر سوريا، بل وبدأ محاولات لإعادة تصنيع الذخائر محلياً». ولفت إلى أن «التقرير يسلّط الضوء على إعادة التوجيه الإيراني داخل الحزب، وتبنّي سياسة تقشفية لإعادة برمجة النفقات في ظل الضغوط المالية».
وأضاف ملاعب أن التقرير، الذي أعدّه ضباط إسرائيليون سابقون يشغلون مواقع وازنة، «شكّل دافعاً لإعادة هيكلة قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، مع التركيز على تعزيز قوات لواء الجليل، كون إسرائيل تخشى أن يستغل (حزب الله) انشغال الجيش الإسرائيلي في غزة للقيام بخرق ميداني شمالاً».
إسرائيل تراكم أوراق القوة
من جهته، قدّم الخبير العسكري العميد الركن المتقاعد حسن جوني قراءة ميدانية أعمق للخطوة الإسرائيلية، رابطاً إياها بالتطورات السياسية والإقليمية. وقال إن «إعادة نشر فرقة الجليل الإسرائيلية على الحدود مع لبنان لا تعني بالضرورة أن إسرائيل تتحضّر لعمل هجومي وشيك»، مشيراً إلى أن «هذا التحرك قد يندرج ضمن سياق تبديل وحدات أو تعزيز دفاعي، وليس بالضرورة تحشيد مباشر لعملية عسكرية».
وتابع: «فرقة واحدة لا تعني تحشيداً بحد ذاته. التحرك قد يكون من باب التبديل الروتيني أو تعزيز تموضع دفاعي. لكن ذلك لا يمنع أن تكون الخطوة جزءاً من تحشيد متدرج وبطيء، أي أن نرى اليوم فرقة، وبعد أسبوع أو اثنين فرقة أخرى، ما يفتح الباب أمام قراءة تصعيدية محتملة».
وفي تحليله للدوافع الإسرائيلية، لفت جوني إلى أن «إسرائيل تعتبر أن المعطيات الميدانية وتوازن القوى الإقليمي والنتائج التي خرجت بها من الحرب الأخيرة تسمح لها بتحقيق أهداف سياسية وعسكرية إضافية، وهي تنظر إلى (حزب الله) اليوم على أنه في لحظة ضعف تاريخية، وقد تسعى إلى استغلال هذه اللحظة للإجهاز عليه أو فرض ترتيبات سياسية وأمنية خارج نطاق القرار 1701».
كما ربط جوني بين الاستراتيجية العسكرية والدبلوماسية الإسرائيلية، قائلاً: «إسرائيل غير راضية عن المكاسب السياسية التي تحققت حتى الآن، وتعتبر أن النتائج العسكرية التي سجلتها في الميدان لم تُترجم في السياسة، ما يدفعها إلى السعي لتحقيق مكاسب أكبر سواء عبر التفاوض المباشر أو غير المباشر مع الدولة اللبنانية».
لا تهدئة فعلية رغم خروج لواء 146
وبينما خصّ خروج لواء 146 إلى الاستراحة، رأى جوني أنه لا يعكس بالضرورة تهدئة، وشرح ذلك بالقول: «الوحدات البرية الإسرائيلية اليوم ليست اللاعب الأساسي في العمليات العسكرية الجارية، التي تعتمد بشكل رئيسي على الطيران الحربي والطائرات المسيّرة. وبالتالي، فإن تبديل أو استراحة بعض الوحدات البرية لا تؤثر على وتيرة الخروقات ولا تشير إلى تغيير في الاستراتيجية العسكرية».
وختم جوني بالتشديد على أن «القراءة الدقيقة لتحركات إسرائيل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تراكم المؤشرات السياسية والعسكرية معاً، وليس فقط تبديلات الوحدات أو التصريحات الإعلامية».