قد يكون من المهمّ أن ينام نوّاب في مجلس النواب ولكن الأهم لمن يصوّتون. إذا كان المقصود الضغط على رئاسة المجلس وعلى النوّاب الآخرين لكي ينتخبوا الرئيس فكان من الأفضل أن يمارس الضغط من خلال تصويب التصويت في جلسات الإنتخاب لأن الإعتصام النيابي في ظلّ استمرار التصويت على ما هو عليه لا يغيِّر في الأمر شيئًا ويبقي الوضع على حاله، إذا لم يؤدِّ إلى إقفال المجلس النيابي وإلى عدم الدعوة إلى جلسة انتخاب جديدة بانتظار حلّ قد لا يأتي أبدًا.
مفتاح المجلس النيابي يحتفظ به رئيس المجلس نبيه بري. دعواته لعقد جلسات عامة لانتخاب رئيس كل يوم خميس كما درج منذ حدّد موعد الجلسة الأولى، تشبه اللادعوة لأنّه يعرف أنّ ما يحصل خلال الجلسات لن يبدّل في مسألة تعطيل الإنتخاب شيئاً. لقد أخرج الرئيس بري نفسه من احتمال اتهامه بالتعطيل فدعا إلى جلسة أولى ضمن المهلة الدستورية وقبل الأيام العشرة الأخيرة قبل انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون لكي يتحكّم لاحقًا بالدعوات إلى الجلسات. ليس الأمر جديداً فهذا التدبير السياسي الإنتخابي تمّ اعتماده عند كل استحقاق رئاسي. بعد انتهاء ولاية الرئيس أميل لحود وبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان وهو يتكرر اليوم.
لعبة الفراغ المتعمّد
عند كل استحقاق رئاسي يصبح التعطيل هو سيد الموقف. لحظ الدستور آلية ملء الفراغ الرئاسي الناتج عن خلوّ موقع رئاسة الجمهورية من أجل تأمين سير عمل المؤسسات وعلى قاعدة أن لا فراغ بل شغور مواقع يمكن ملؤها بطريقة دستورية. ولكن هذا الخلوّ تمّ أخذه بالإعتبار من باب تأمين استمرارية المؤسسات وإذا حصل الفراغ أو الشغور لظروف قاهرة أو استثنائية أو فجائية، كأن يتوفّى الرئيس أو يستقيل أو يصاب بمرض يمنعه من ممارسة الحكم. أمّا أن يصير إفراغ الرئاسة من رئيسها بشكل مقصود ومتعمّد فهذا الأمر يعتبر خروجاً على الدستور وعملية انقلاب سياسي مخطّطاً لها وممنهجة وتخفي نوايا خبيثة وسيئة. لذلك صار التكرار يُعتبر جريمة تمارس بحقّ الديمقراطية. يتمّ تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لكي تحلّ الحكومة مجتمعة محلّ الرئيس ولكي يقال إن الأمور ماشية من دون رئيس.
قبل الطائف لم يواجه لبنان مثل هذا الأمر إلّا في مرحلتين: الأولى عندما استقال الرئيس بشارة الخوري وتمّ تكليف قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئاسة حكومة انتقالية أمّنت انتخاب رئيس جديد خلال ثلاثة أيام. عندما انتخب الرئيس كميل شمعون في 23 أيلول 1952 لم يتمّ البحث عن إمكانية تعطيل النصاب ولم يتمّ الحديث عن منع تأمين أكثرية الثلثين. كانت العملية الديمقراطية، ولو بالشكل غير الكامل، سارية المفعول. لم يكن المطلوب أن يحصل الرئيس المرشح على ثلثي عدد الأصوات بل أن يحصل على أكثرية النصف زائداً واحداً بعد اكتمال النصاب، ولم يكن على معارضي انتخابه تعطيل الإنتخاب بل تأمين النصاب لكي يتم الإنتخاب في ظل الديمقراطية النيابية والسياسية، لأن على المعارضة أن تُكمِل البناء السياسي على خلفية تداول السلطة بالشكل الصحيح وليس تعطيلها بطريقة مقصودة.
ولو كانت هذه القاعدة متبعة مثلاً، لكان النهج الشهابي عطّل انتخاب النائب سليمان فرنجية في 17 آب 1970. نهج تعطيل النصاب بدأت محاولات اعتماده كممارسة سلبية حتى لو كان حقّاً دستورياً شكلياً منذ جلسة انتخاب الرئيس الياس سركيس في 8 أيار 1976 عندما تمّ استخدام القوّة لمنع وصول النواب إلى مجلس النواب وتكرّر الأمر مع استحقاق انتخاب الرئيس بشير الجميل ثمّ في العام 1988 عندما حاول النظام السوري فرض انتخاب الرئيس الذي يريده. منذ ذلك التاريخ انقلبت المعادلة وصار الهدف: إمّا تنتخبون الرئيس الذي يريده هذا النظام أو لا انتخابات. بعد العام 2005 صارت المعادلة: إمّا تنتخبون الرئيس الذي يريده «حزب الله» أو لا انتخابات. لقد حدّد «الحزب» ما يريده من رئيس الجمهورية من خلال القول إنّه يريد رئيساً شجاعاً يقف على رجليه ولا يخضع للقرار الأميركي، والمقصود أن يكون هذا الرئيس من صنع «الحزب» وخاضعاً له وهو الذي يوقفه على رجليه ويصنع له سياسته ولا يمكنه أن يخرج عن سلطته.
أكثرية الـ27 نائبًا
منذ انتهاء ولاية الرئيس أميل لحود اعتمد «الحزب» هذه الإستراتيجية التي لا تخرج عن إرادته في أن يكون هذا الرئيس من ضمن منظومته. لا تتعلق المسألة بأكثرية الثلثين، أي الـ 86 نائباً التي يحكى عنها لتأمين النصاب الدستوري لجلسة الإنتخاب، والتي يعتدّ بها للقول إنّ هذا الأمر يفرض التوافق المسبق على هذا الرئيس، بمعنى أنّه لا يمكن تأمين النصاب إلّا في حال الإتفاق على الرئيس الجديد بينما الواقع يفترض أن يتمّ تأمين هذا النصاب من ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية واكتمال العقد السياسي بين الموالاة والمعارضة اللتين تشكلان ضفتيْ الديمقراطية. ولكن بحسابات «حزب الله» والفريق التابع له لا ديمقرطية ولا تداول في السلطة بل تعطيل سلبي وابتزاز. لا يتقصر الأمر على اعتماد أكثرية الثلثين وحدها بل أكثر من ذلك يتم القفز إلى اعتبار آخر وهو التصويت الشيعي لأي رئيس جديد. حتى لو تأمّن 86 نائباً لمرشح معين يؤمِّنون النصاب وحتى لو تأمّنت مع ذلك أكثرية 65 صوتاً للإنتخاب يتمّ اعتماد نظرية أخرى للتعطيل وهي أنّه لا يجوز انتخاب رئيس من دون أن يصوِّت له اي نائب شيعي. مع هذه النظرية غير الدستورية وغير الميثاقية يصبح التعطيل رهن «الغيتو» النيابي الشيعي الذي يسيطر عليه «حزب الله» وحركة «أمل». ولذلك كانت استراتيجية هذا الثنائي خلال انتخابات 15 أيار الماضي وقبلها في انتخابات العام 2009 أن لا يتمّ اختراق هذا التمثيل الشيعي قبل أن تكون المسألة الثانية في هذه الإستراتيجية الحصول على الأكثرية النيابية أو على الثلث المعطل في أي حال من الأحوال.
قبل النوم في المجلس
قبل النوم في مجلس النواب سقط الكثير من النواب المحسوبين على المعارضة أو على قوى التغيير في مطبّ أكثرية الثلثين من خلال التماهي مع التعطيل من خلال القبول بنظرية المعطّلين الأساسيين ومن خلال القول إنّه لكي يتمّ انتخاب الرئيس يجب أن توافق عليه أكثرية تبدأ من 86 نائباً. هذا العدد ليس شرطاً للإنتخاب بل لتأمين النصاب. ليس من المفروض أن يوافق النواب الـ86 على اسم رئيس واحد لانتخابه بل أن يؤمِّنوا شروط اللعبة الديمقراطية لانتخاب رئيس بأكثرية 65 صوتاً وما فوق خدمة للعبة الديمقراطية ولتأمين تدوال السلطة، لأنّ الرئيس الذي ينتخب يفترض فيه أن يصبح رئيساً لكل لبنان وللذين انتخبوه ولم ينتخبوه.
وعلى هذا الأساس يجب أن تتم تسمية رئيس الحكومة وتشكيل الحكومة وتسمية الوزراء. ولكن القواعد التي تم اعتمادها وأوصلت الوضع بكامله إلى الإنهيار كانت من خلال تأمين حصص وزارية داخل الحكم بحيث تحوّلت المؤسسات إلى مزارع كان من الطبيعي أن توصل إلى هذا الإنهيار. وبهذا المعنى يصبح تقسيم الدولة في مؤسساتها أخطر من تقسيمها جغرافياً على أرض الواقع. يبدأ هذا التقسيم من خلال احتكار التمثيل الشيعي ومحاولة فرض إرادته على باقي المكونات الطائفية والسياسية، وينسحب على باقي المؤسسات في الدولة. وضمن هذا الإطار يمكن فهم طبيعة طرح مسألة تحميل المسيحيين مسؤولية الفراغ في رئاسة الجمهورية ودعوتهم إلى أن يتّفقوا على الرئيس لكي يقبل الآخرون بالإسم الذي يتّفقون عليه، على قاعدة يتمّ تعميمها وهي أن يختار الشيعة رئيس مجلس النواب والسنة رئيس مجلس الوزراء والمسيحيون رئيس الجمهورية، وبعد ذلك أين يمكن صرف الحديث عن دولة المؤسسات الموحدة؟
لا لتغطية التعطيل
النوم في مجلس النواب يجب أن يكون من ضمن خطة كاملة متدرِّجة وصولًا إلى انتخاب رئيس يمثّل السيادة الوطنية وقادر على القيام بمهمة الإنقاذ وليس على خلفية التوافق على رئيس على قاعدة التخويف من الإنهيار بحيث يمكن أن يكون هذا الإتفاق على رئيس كيفما كان فقط لكي يكون هناك رئيس ولكن من دون خطة إنقاذ. ولذلك يجب أن يكون الإعتصام النيابي أكبر من مسألة اعتراض على التعطيل كحدث عابر، بل على خلفية الإعتراض على التعطيل كاستراتيجة معتمدة من أجل بناء استراتيجة مقابلة لها. هذه الإستراتجية كان يجب أن تبدأ من خلال تأمين 65 صوتاً لمرشح رئاسي كميشال معوض أو أي شخص آخر يمكن أن يحمل المشروع نفسه والمواصفات نفسها بالتوافق مع معوّض ومع من رشّحه ويستمرّ في ترشيحه، وليس من خلال التوافق مع من يرفضون ترشيحه ويطالبون بالتوافق على المرشح الذي يتمسّكون بترشيحه وحده دون غيره. لذلك كان يجب أن يبدأ الإعتصام بعد تأمين هذه الخطوة حتى يكون له مفعوله وحتى يكون فعلًا ضد المعطلين لانتخاب رئيس بات يحوز على الأكثرية التي توصله إلى قصر بعبدا بغضّ النظر عن أكثرية الثلثين التي تصبح عندها أداة خطف للديمقراطية بدل أن تكون أداة تثبيت لها من خلال الإعتراف بحقّ الأكثرية.
ولذلك يجب أن يترافق النوم في المجلس مع حركة خارج المجلس لا تنزل تحت هذا السقف حتى لا يصبح مجلس النواب مقبرة للديمقراطية وحتى لا يصبح النوم فيه كالنوم في المقابر ورؤية المنامات المرعبة لسيناريوات يمكن ان تحصل. ولذلك قد يكون مهمّاً أين سينام النواب المعترضون ولكن الأهم هو لمن يصوّتون قبل الإعتصام لا بعده. إذا لم يكن الأمر كذلك يصبح النوم في المجلس كأنه خدمة لتغطية استمرار عملية التعطيل.
نجم الهاشم - نداء الوطن