دفع الإنهياران المالي والنقدي المترافقان مع تعمّق الإقتصاد النقدي إلى خلق «ليرة بنكية» جديدة، اصطلح على تسميتها «البيرة» من باب التشبية بالودائع الدولارية التي تحولت إلى «لولار». فالودائع بالليرة الموجودة في الحسابات المصرفية مفقودة، والخارج منها على شكل تحويلات مصرفية داخلية أو شيكات بنكية، مولود، إنما بحسم يتراوح بين 12 وحتى 20 في المئة.
إصرار السياسة النقدية على طمس الودائع بالليرة اللبنانية الموجودة في الحسابات المصرفية، إفساحاً في المجال أمام التفنن باستعمال الليرات المطبوعة حديثاً ضخاً وتنشيفاً، «يحمل مخاطر جسيمة على الوضع الإقتصادي، وعلى إمكانية استعادة لبنان ثقة الخارج»، بحسب النائب مارك ضو. «ذلك أن استفحال الاقتصاد النقدي سيدفع بالدول الأجنبية إلى تضييق الخناق أكثر على لبنان بالتعاملات المالية والمصرفية، واتخاذ إجراءات أكثر حزماً وتشدداً، قد لا تنتهي مع بدء تطبيق الاصلاحات المطلوبة». وبالتالي «نحن ملزمون بابتداع آلية عمل جديدة لإعادة الليرات الموجودة في الحسابات المصرفية إلى الدورة الاقتصادية»، برأي ضو، «بشكل يشجع على استخدام العملة الوطنية في التعاملات الداخلية اليومية من جهة، ولا يخلق تضخماً نتيجة انفلاش الكتلة النقدية بالليرة».
تحريرها يريح الاقتصاد!
الودائع بالليرة اللبنانية البالغة حوالى 38 ألف مليار ليرة لبنانية، ما زالت لغاية اللحظة غير مشمولة بأي خطة لارجاعها. وباستثناء التعميم 148 الصادر في 3 نيسان 2020 الذي سمح لأصحاب الودائع الصغيرة جداً، التي لا تتخطى 5 ملايين ليرة، تحويلها إلى الدولار على السعر الرسمي ومن ثم تقاضيها على سعر منصة صيرفة (2600 ليرة)، فان هذه الودائع باقية بحكم المحتجزة. و»لا يبدو أن قانون الكابيتال الكونترول بصيغته النهائية سيعمل على فك حجزها، في حال ابصاره النور»، بحسب ضو، «بل سيخضعها إلى قيود شبيهة بحسابات الدولار خوفاً من زيادة الكتلة النقدية بالليرة. ذلك مع العلم أن تحريرها كلياً، وفرض التعامل بها بوسائل الدفع غير النقدية يريح الاقتصاد، ويخفف الضغط على الكثير من المؤسسات الخدماتية والتجارية. فالأخيرة حساباتها محتجزة ولا يمكن تجيير الأموال منها لمصلحة عملائها أو موظفيها من دون دفع «غرامة» تصل إلى 12 في المئة. وقد فرضت المصارف على الشركات حمل الليرات الناتجة عن عمليات البيع إلى فروعها من أجل تسديد متوجبات المؤسسات المختلفة. ففضلت المؤسسات الإبتعاد عن هذه الآلية الخطيرة والدفع بشكل نقدي لتلبية احتياجاتها. مع ما تتطلبه هذه العملية من تحضيرات لوجستية تتعلق بالأمن والحماية وتخزين النقود».
إستمرار الطباعة يعدم الامل باستعادة الليرات من الحسابات
المحاولات التي تقودها السلطتان المالية والنقدية لامتصاص الليرات المفلوشة ما زالت أعجز من أن تسمح بتحرير الودائع بالعملة الوطنية. فكل ما استطاع مصرف لبنان أن يمتصه من خلال فتح سقف التحويل من الليرة إلى الدولار على منصة صيرفة من تاريخ 27 كانون الاول 2022 إلى 9 كانون الثاني 2023 بلغ 12 ألف مليار ليرة. حيث بينت الأرقام تراجع الكتلة النقدية بالليرة من 80 إلى 68 ترليون ليرة. وقد ضخ على منصة صيرفة فداء لهذه العملية «الكاميكازية» نحو 1.4 مليار دولار. أمّا تدابير وزارة المالية التي طلبت من الشركات تسديد 50 في المئة من الرسوم الجمركية نقداً، لم تنجح أيضاً، نتيجة حملة الاعتراضات الكبيرة عليها. وعليه فـ»لنجمع كل الكتلة النقدية بالليرة التي تتضمن النقد بالتداول والحسابات المصرفية، سواء كانت جارية أو لأجل، ونجد الطريقة لتذويبها بمهلة زمنية تنتهي قبل العام 2023. ذلك أن طباعة النقود تزيد شهراً بعد آخر، وتهمل هذه الحسابات.
إجراءات تطبيقية
الطرح السليم من الناحية النظرية، يجب أن يترافق من الناحية التطبيقية مع إجراءين أساسيين بحسب المستشار المالي والمصرفي د. غسان شماس، وإلا تكون نتائجه عكسية ويزيد بشكل كبير التضخم ويعمق انهيار الليرة. والإجراءان هما:
- إقرار قانون الكابيتال كونترول.
- وضع قيود كمية ونوعية على الاستيراد من الخارج.
ينطلق شماس لتفسير وجهة نظره من معادلة أصبحت واضحة جداً، وهي: «كل الودائع سواء كانت بالدولار أو اليورو أو الباوند أو حتى الليرة لم يعد لها وجود حسي فيزيائي في المصارف، وهي كلها عبارة عن قيود مصرفية. ولكي يسهل تحريرها، وبالتالي استعمالها بوسائل الدفع غير النقدية كالشيكات، يفترض وجود قانون للكابيتال كونترول. إذ من دون هذا القانون ستبقى المصارف ترفض قبول الشيكات الورقية، مخافة من مطالبتها في ما بعد بتحويلها إلى اموال نقدية سواء كان عبر التعميم 158، أو حتى بالقوة والدعاوى القانونية. وبالتالي، فان النقود التي تدخل على شكل شيك مصرفي في ظل الكابيتال كونترول، يمكن أن تخرج شيكاً من الجهة الاخرى، فتصبح التحويلات الداخلية عبارة عن قيود وتقلص بالتالي فرص التداول النقدي». بيد أن هذه الأموال في نهاية المطاف تنقسم إلى شقين: الاول، تستعمل لتغطية التكاليف الداخلية، يمكن اتمامها من خلال المعاملات غير النقدية أو حتى عبر الليرة الرقمية. الثاني، سيتحول حكماً إلى نقود فعلية من أجل استيراد الحاجات من الخارج. وهذه الحاجات يعتمد عليها الاقتصاد بنسبة تتجاوز 80 في المئة. وهنا يأتي دور القيود الكمية والنوعية على الاستيراد.
قيود الاستيراد
في نهاية هذه السلسلة هناك من سيستورد من الخارج، وسيتحول اللولار والليرة على السواء إلى دولار حقيقي من أجل تلبية هذه العملية. وفي هذه المرحلة بالتحديد «إذا تعهدت الدولة بتأمين الدولار مقابل جزء من اللولار أو الليرة على أن لا تتخطى حداً معيناً، «تنفتح اللعبة»، برأي شماس. «أو ما يعني تُرفع القيود على الليرات واللولارات الموجودة في المصارف، فتتحول إلى عملية رقمية، وتعود العجلة الاقتصادية إلى الدوران».
الحل الممكن
الانتقال إلى العملة الرقمية أو Digital currency الذي يساعد على تحرير الليرات المحتجزة وحتى اللولارات لا يمكن أن يتم قبل إتاحة العملة الصعبة للإستيراد بشكل مضبوط، خلافاً لما يعتمده مصرف لبنان حالياً من إتاحتها لجميع من يحتاجها ومن لا يحتاجها، وبكلفة تصل إلى 300 مليون دولار في اليوم الواحد. فـ»في نهاية الدورة الاقتصادية عند نقطة الاستيراد يجب أن تكون الدولارت مؤمنة بشكل مقونن ومحدد تبعاً لحاجات البلد الفعلية، وبسعر السوق الذي يجب أن يصبح هو السعر الوحيد»، من وجهة نظر شماس. فوضع كوتا للاستيراد يخفف من عجز الميزان التجاري، خصوصاً أن لبنان يستورد بحسب الارقام لبلدين. وإذ ما أضفنا الصادرات بحدود 3.5 مليارات دولار، وتحويلات المغتربين المقدرة بـ 7 مليارات دولار، وعوائد السياحة التي يمكن أن تصل إلى 10 مليارات دولار، وبعض الاستثمارات الاجنبية... فمن شأن هذه العملية تعديل ميزان المدفوعات. ومع انتفاء العجز في ميزان المدفوعات، ينتفي التضخم على الليرة تلقائياً. وتنعدم الحاجة لاستمرار شراء الدولار من السوق بهذه الوتيرة المجنونة التي تحدث اليوم. ويثبت سعر الصرف.
على عكس الطريقة الاصطناعية التي ثبّت على أساسها سعر صرف الدولار بالاستدانة طوال العقود الثلاثية المنصرمة، فان من شأن تحفيز الاقتصاد إعادة الاستقرار بشكل طبيعي لسعر الصرف وانتفاء المشاكل المتعلقة بتعدد أسعار سعر الصرف وحجز الودائع.
يعتبر غسان شماس أن الودائع بالليرة محررة، بمعنى أنها موجودة ويمكن دفعها ساعة يشاء المصرف المركزي الذي يملك السلطة السيادية على العملة الوطنية وإمكانية الطبع. وبالمنطق لا يوجد «كابيتال كونترول» على العملة الوطنية، إنما قيود على الإستعمال من قبل المركزي. وتسديد الودائع بالليرة يريح المصارف ويخفف عنها عبء وجودها العقيم في حساباتها. فالبنوك لا تستفيد من هذه الودائع لا بالإقراض ولا بالعمولات.