لم يعد خافياً أن الفوضى بدأت تقطع أوصال المجتمع اللبناني وتدمّر ما تبقى من مؤسسات جامعة. وصلت المشكلة اللبنانية إلى مرحلة من التدهور كان يتوقعها كثيرون، وهي التأزم الذي لا يفضي إلى حل من دون تدخل خارجي في ظل تفكك الدولة وعجز أطراف الداخل عن صوغ توافقات، خصوصاً لعدم وجود بدائل وازنة، وهي تغييرية بالدرجة الأولى. بات الجميع مقتنعين أن لا وجود لمقومات تسوية داخلية في ظل الصراع القائم، وهي تحتاج إلى رافعة خارجية لم تتوفر شروطها بعد، على الرغم من الحراك الذي يقوم به سفراء دول اجتماع باريس مع القوى السياسية والذي كشف عن عمق المأزق وعدم القدرة على إيجاد تقاطعات حول انتخاب رئيس توافقي، مع التصعيد في المواقف، لا سيما ما حدده "حزب الله" على لسان أمينه العام حسن نصرالله برفضه فرض رئيس من الخارج على اللبنانيين عن طريق الضغوط والفوضى، وهي رسالة يستشف منها أن التفاوض على الاستحقاق والتسوية هي بينه وبين الخارج.
اقتربت الازمة من الانفجار، ولم يعد اي طرف داخلي قادرا على اطلاق مبادرات جامعة، فتكرست الفوضى مع الانهيار والتفلت الذي بدأ يأخذ أبعاداً خطيرة، وبات الجميع يراهن على مرجعيته الخارجية لإحداث خرق يعدل موازين القوى القائمة والذي لا يمكن أن يحدث عسكرياً. وتشير أوساط دبلوماسية خارجية إلى أنه ما لم يحدث خرق على مسار الاستحقاقات والتسوية، فإن البلد سيتجه إلى الارتطام الكبير أو صدمة يمكن أن يكون لها ارتدادات إقليمية. والمؤشر واضح على ما أظهره كلام نصرالله، والذي أغفل صراعاته في الداخل عن سبب الأزمة مصعداً ضد الخارج وتحديداً ضد الولايات المتحدة الأميركية. ووفق كلامه "في حال كان الأميركيون وجماعتهم يخططون للفوضى وانهيار البلد، فأنا أقول لهم أنتم ستخسرون كل شيء في لبنان، وأنتم خططتم لشيء مشابه في الماضي وخسرتم". بالنسبة إليه هناك استهداف لبيئة المقاومة من خلال الفوضى، وليس للبلد و"عليكم أن تنتظروا الفوضى في كل المنطقة".
تصعيد نصرالله وتهديداته يشيران إلى أن الامور في البلد وصلت إلى المنعطف الاخير، والذي تسبق الارتطام، لكنها مرحلة قد تطول في انتظار تبلور وجهة دولية ضاغطة باتت السبيل الوحيد للخروج من المستنقع، ومعها تبقى الساحة متروكة للقوى المتصارعة من دون أن تكون قادرة على انتاج الحل، لا بل تغرق أكثر في الصراع والمحاصصات على حساب اللبنانيين ومصالحهم. وعلى هذا ثمة تساؤلات عمن يدفع الأمور في البلد إلى الانفجار، على الرغم من أنه لا يزال يقاوم الانجرار إلى الصراع الأهلي العسكري، لكن تسارع التدهور ومعه الفوضى قد يؤدي إلى حدوث صدمة تدفع إلى تغيير المسار، بصرف النظر ما إذا كان داخلياً أو خارجياً.
يقود التدهور المتسارع إلى تلاشي الدولة وغياب معالمها، فيما تصطف القوى السياسية والطائفية في بيئاتها منتظرة تغيّرات تعدل في موازين القوى من دون أن تنجرف إلى حرب أهلية. وذلك له أسبابه في ضوء الخلل في القدرات، حيث لا طرف داخلياً يمتلك فائض القوة التي يتمتع بها "حزب الله". لكن ترتفع وسط الانهيار مطالب الفدرالية أو أقله التمترس المذهبي. ويبدو أن الحزب الذي بات يعلن مواقفه مباشرة عازم على خوض معركة استحقاق الرئاسة بمرشحه سليمان فرنجية في مواجهة ما يسميه "الفوضى" واتهام الولايات المتحدة بإثارتها، وإن كان نصرالله تحدث عن التسوية، لكنها تسوية تقوم على التفاوض مع الخارج أولاً، ومنه إلى الداخل، ما يعني تكريس مرجعية "حزب الله" كمقرر في الاستحقاق والتسوية في شكل عام.
الفوضى التي شهدها لبنان خلال الأسبوعين الماضيين والمرشحة للتمدد، تؤكد أن البلد ذاهب إلى صدمة أو ارتطام كبير. يذكر مصدر سياسي مطلع أن "حزب الله" انتظر إلى أن يعلن موقفه من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، ثم رفع السقف بالتهديد بقصف كاريش وأطلق مسيّرات فوق الحقل النفطي، قبل أن يتراجع ويوافق على الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية. اليوم يطلق تهديدات ويرفع السقف مجدداً حول الحرب والفوضى، وان كانت الامور مختلفة، إذ أنها ترتبط بالداخل اللبناني، لكن تقاطعاتها واضحة، اي الذهاب الى التصعيد الاقليمي لجني مكاسب داخلية في التفاوض وأيضاً لتخفيف الضغوط عليه. ورغم التصعيد، فإن "حزب الله" غير قادر على تفجير حرب خصوصاً على الحدود البحرية، إذ أن اتفاق الترسيم وضع ضمانات لا يمكن تجاوزها واي تصعيد لا يحظى بتغطية داخلية ولا خارجية، إضافة إلى أنه يعلم أن الحرب قد تزيد من الفوضى ولا تؤدي إلى معالجة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية ولا تخفيف الضغط عما يسميه "بيئة المقاومة"، لذا يبدو التصعيد عبارة عن رسائل إلى الخارج لفرض وجهة معينة في الداخل، وللقول لدول اجتماع باريس أن الرئيس والتسوية يمران عبر "حزب الله" وبالتفاوض والاتفاق معه.
سنشهد خلال الايام المقبلة تمدداً للفوضى على وقع المزيد من الانهيارات، ومعها التصعيد في المواقف قبل حدوث صدمة تدفع إلى تسوية على أنقاض البلد. وإن كان التدخل الدولي غير عازم على تغيير الوضع القائم، إذ لا يوجد تحرك جدي يذكر بمراحل الأزمات الكبرى في لبنان خصوصاً في 2005 و2008 و2015، وبينها كلها الازمات التي تناسلت من الحرب السورية في 2011 وانعكست تداعياتها على لبنان. ففي مقابل "حزب الله" لا تظهر قوى قادرة على فرض التسوية أو إيصال مرشح لها إلى الرئاسة، وهو أمر تعرفه القوى الدولية خصوصاً الولايات المتحدة الاميركية التي لم تعلن تأييدها علناً لأي مرشح رئاسي، فيما التسريب حول فرض عقوبات على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ثم نفيها، يندرج في إطار تلمس ردود الفعل اللبنانية، رغم أن لها وظيفة سياسية مرتبطة باستكشاف موقع "حزب الله" وتأثيره في المسار اللبناني العام.
ستتكرر مشاهد الفوضى من دون أن تؤدي إلى حرب داخلية، ذلك أن "حزب الله" هو الطرف الوحيد الذي يمتلك فائض قوة مسلحة، فيما سيتواصل التحرك الدولي على وقع نتائج اجتماع باريس من دون ضغوط، وهي حتى الآن لم تنجح في إحداث خرق في الملف الرئاسي. وكلما طالت الازمة واشتدت، ستتقدم معادلة نصرالله بعد تهديداته أكثر، لتكريس سليمان فرنجية مرشحاً في مواجهة الفوضى، على الرغم من رفض دول اجتماع باريس خصوصاً السعودية لاسمه كونه مرشح الممانعة وأن كان أعلن أنه لا ينتمي لاي محور. فيما الوضع اللبناني ينزلق أكثر إلى الفوضى ويتمدد نحو انفجارات أهلية لا تترك أي معالم للدولة وللبنان الوطن.