اجتازت نقابة أصحاب المستشفيات بيانات المطالبة بالإسراع في الإفراج عن مستحقاتها العالقة، لتبدأ مرحلة جديدة من المواجهة مع المطالبة بوضع مؤشر لتحصيل مستحقاتها أسوة بما هو معمول في عملية تحديد أسعار الأدوية. عملياً، انتقلت النقابة من ضفة إلى أخرى، مع الدعوة إلى تحصيل المستحقات على أساس سعر الصرف الذي يكونه الدولار في لحظة إعداد الفواتير. ولكن، هل الجهات الضامنة على الموجة نفسها؟
انتهى زمن الليرة، وجاء دور الدولرة. سواء كان بقرارٍ رسمي كالقرار الذي اتخذته وزارة الاقتصاد بالسماح للسوبرماركت بالتسعير بالدولار الأميركي، أو بـ«الفرض» من خلال التسعير اليومي للسلع والمنتجات استناداً إلى تأرجحات سعر الصرف، كما يحصل في كل الأمكنة بلا استثناء. لكن يبقى تسعير الخدمات في بعض الأماكن رعباً عندما يقترب من خدماتٍ أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. والحديث هنا يمسّ ما خرجت به نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان في آخر «إنذاراتها»، مطالبة بوضع مؤشّر لمستحقاتها من الجهات الضامنة، أسوة بما هو معمول به في عملية تحديد أسعار الأدوية. مؤشر يبرّره نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان، سليمان هارون، بالدولرة الحاصلة. وفي حالة المستشفيات يشير هارون إلى المعادلة التالية «بما أننا ندفع اليوم 90% من تكاليفنا بالدولار الفريش بما يعادله في السوق، فالمطلوب هو استيفاء هذه النسبة متل ما عم ندفع». وهذا واضح بالنسبة إلى هارون: كما ندفع، أي كما يُسعّر الدولار في السوق الموازية.
لا معادلة أخرى قد تفي بالغرض. يحسم هارون الأمر، مشدّداً على أن الطرح «بدو يلاقي تجاوب»، كي لا يقع المحظور بالنسبة إليه والمتمثل بانكسار المستشفيات. لكن، هل الطرف المعني بالمقابل لديه القدرة على السير بهذا الطرح؟
تعاونية الموظفين: مبالغة في الطلب
في الوقت الذي تتريّث فيه وزارة الصحة العامة في إعلان موقفها مما تطلبه نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة بانتظار ما سيخرج عن اللجنة التي شكّلتها لمناقشة الطروحات والوضع الصحي وما آل إليه، لا يعكس «الموجود» لدى الصناديق الضامنة الأخرى، وخصوصاً الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة، بأن المطروح من نقابة أصحاب المستشفيات قابل للنقاش. ولا يرجع السبب إلى عدم الرغبة في ذلك، وإنما إلى وجود هوة لا يمكن ردمها بين ما تطلبه المستشفيات وما تملكه تلك الجهات في صناديقها في ظلّ أزمة مستعصية. فهذه الأخيرة تواجه بالليرة واقعاً بات كله مدولراً.
بالنسبة إلى أولى الجهات، تعاونية موظفي الدولة، الإمكانات ليست محدودة فحسب، وإنما معدومة، استناداً إلى موازنة تعتمد في جزئها الأوفر على مساعدة الدولة، بحسب المدير العام للتعاونية، الدكتور يحيى خميس. وإن كان الأخير يعتبر أن المستشفيات «معها حق»، إلا أن ذلك يبقى من «وجهة نظرها»، ولا يمكن أن تكون «فرضاً واجباً» على وجهة النظر المقابلة للتعاونية. خميس، وإن كان متفهّماً لمسار الأمور التي تتغير بسرعة، يرى «مبالغة في الطرح»، لاعتبارات منها أن «بعض الخدمات زادت أسعارها من دون مسوّغ أو من دون أن نفهم لماذا، حتى بدا أن الغالبية من المستشفيات لا تزال تعمل بنفس العقلية السابقة، وبعضها بات أكبر من أوتيل 5 نجوم»، ومنها أن الجهات الضامنة ليست «طابعة أموال»، وإنما محكومة بموازنات واشتراكات لم تتعدّل إلا في ما ندر.
ففي ما يخص التعاونية، رُصد لها في موازنة العام الماضي ما نسبته 600 مليار ليرة بدل استشفاء وأدوية «وقد استطعنا رفع التغطية إلى حدود 10 أضعاف، أي على قيمة دولار 15 ألفاً». أما اليوم، «فلا أستطيع أن أتحدّث عن سقفٍ جديد إذا لم تكن لديّ موازنة تفي بالغرض، فأنا خاضع لما ما هو مرصود لي في الموازنة وهي اليوم بهذا الحجم». من جهة أخرى، يلفت خميس إلى أنه بحسب الدراسات التي قامت بها التعاونية أخيراً ـ وكان الدولار يومها يوازي 75 ألفاً ـ «نحن نحتاج إلى موازنة تُقدر بثمانية آلاف مليار ليرة، منها 5 آلاف مليار للاستشفاء والدواء، وهذه تقترب كثيراً من الواقع وإن كانت لا تغطيه بشكلٍ كامل». ويشير خميس إلى أنه تواصل مع المعنيين في ما يخصّ طرح التعاونية، غير أنه يعرف أن تلك الأرقام تبقى نظرية «لأنه عملياً لا نملك جواباً عما سيكون الرد… وماذا ستدفع الدولة». من هنا، يجزم خميس بأن «لا إمكانية اليوم للأرقام الصعبة التي تطرحها نقابة أصحاب المستشفيات»، مشدّداً في السياق نفسه على أن لا شيء قابلاً للنقاش «إلا بتعاون كل الأفرقاء، وإن كان ذلك أيضاً لا يعني أن الأزمة تُحلّ بشكلٍ جذري أو مثالي».
الضمان الاجتماعي: لا تكافؤ
ليس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في أفضل حالٍ، فللأخير «تركيبة» تجعل من الصعب الحديث عن احتمال السير في مثل تلك الخيارات، إن لناحية اعتماداته، حيث إن الأخير تقوم موازنته على الاشتراكات، أو لناحية ثقل ما حُمّل، حيث تتراكم لديه الكثير من الأموال في ذمة الدولة، والتي فقدت قيمتها في كلّ الأحوال. بالنسبة إلى الضمان، لا تكافؤ، فهو محكوم بتمويل محدّد، وهذا التمويل يحتاج إلى دراسات معمّقة قبل الأخذ بأي قرار. أما في الوقت الحالي، «فاعتماد الصندوق الأساسي على الاشتراكات، والتصريح الفعلي للمؤسسات عن الأجور أو حتى عن العاملين لديها لا يرقى إلى مستوى التصريح، أضف إلى أن الدولة آذت الضمان، فبدلاً من أن تكون ناظمة، خرجت بقرارٍ هجين تعتبر بموجبه أن كل ما تدفعه المؤسسات لموظفيها من مساعدات اجتماعية عن عامي 2022 و2023 لا يخضع للاشتراكات ولا يُصرّح عنه، وقد بات هذا الأمر حجة للمؤسسات للإبقاء على الراتب مثبّتاً عند حدّ معين، واعتبار كل ما عدا ذلك مساعدة اجتماعية». يحدث ذلك من دون أن تعمل الدولة على إقرار حدّ أدنى عادل للأجور، فحتى اللحظة لا تزال غائبة عن السمع. ولذلك، أيّ طرح اليوم ينطلق من معادلة أساس: المعاملة بالمثل، فبحسب المصادر «إن كانت المستشفيات تعتبر أن 90% من أكلافها بالدولار الأميركي وتطلب من الجهات الضامنة التسديد على هذا الأساس، فلتعمل هي على تعديل سياستها، ولتصرّح للضمان عن رواتب موظفيها كما تدفعها، فإن كانت تعتبر أنها تدفع جزءاً لهم بالدولار فلتصرّح كي تأخذ من الضمان بالمقابل ما تنويه».
بالنسبة إلى الضمان، هنا تكمن الإشكالية، وأي تعديل اليوم يفترض حكماً «أن تعيد الجهات الضامنة صياغة كل منظومتها الصحية». وإعادة الدرس تنطلق حكماً من «غربلة» للفواتير إلى التدقيق فيها إلى الإجابة على جملة أسئلة منها: ما هو أفق الوضع الاقتصادي؟ وهل نحن ذاهبون باتجاه الدولرة الشاملة؟. ولأن اليوم لا إجابات مضمونة، تعتبر المصادر أن الحديث عن طروحات كهذه لا يتناسب مع المرحلة الراهنة، وهذا يفترض «جلاء المرحلة، أي مع استقرار الواقع وخصوصاً النقدي، إن كان لناحية استقرار سعر الصرف أو استيضاح بنية الرواتب لكي نعرف كم نستطيع أن نحصّل هنا في سياق الاشتراكات. أما ما عدا ذلك «فأنت تريد تحميل الصندوق أعباء لا طاقة له على حملها». ولذلك إما أن تنطلق الدورة كلها مع بعضها باتفاق كلّ الشركاء «لوضع استراتيجيات متكاملة وإما القوي بدو يضلّ داعس الكل».