تعتبر الحدود اللبنانية السورية واحدة من أكثر المناطق تعقيدا في المنطقة، وقد ظلت لسنوات بقعة غامضة على الخارطة، تتواصل فيها أعمال التهريب بكافة أشكاله، من تهريب البشر والمحروقات والسلع وصولا إلى تهريب المخدرات والكبتاغون والسلاح، لكن مسألة تهريب السلاح اعتبرت الأكثر إثارة للجدل.
ارتبط تهريب السلاح في منطقة الحدود اللبنانية السورية بشكل أساسي بحزب الله الذي يسيطر على مناطق شاسعة، من المناطق المحاذية لسوريا على أطراف السلسلة الشرقية لجبال لبنان، إلى أقصى الشمال الشرقي للبلاد، وصولا إلى الداخل السوري.
هل يتواصل تهريب السلاح على الحدود اللبنانية السورية؟
قد يكون هذا السؤال واحدا من أصعب الأسئلة التي تطرح حاليا بعد التغيرات التي حصلت خلال الأشهر الماضية في سوريا ولبنان على حد سواء.
زيارتنا إلى منطقة البقاع شرقي لبنان واقترابنا من "الحدود الممنوعة" هذه، لم تبين لنا سلاحا ظاهرا، لكنها تخفي الكثير من الأسرار.
لم نستطع خلال تحقيقنا الوصول إلى تلك المناطق لاعتبارات أمنية عدة، لكننا عدنا الى تاريخ هذه المنطقة وقابلنا مسؤولين وخبراء حدثونا عن هذا السلاح وعمليات التهريب التي تواصلت لسنوات عدة قبل سقوط النظام السوري وتبدل الصورة في لبنان.
الحدود اللبنانية السورية.. طريق إمداد
يقول الكاتب السياسي في موقع "أساس ميديا" إبراهيم ريحان إن "بعض مناطق البقاع شرقي لبنان كانت تعتبر منطقة عسكرية تابعة لحزب الله، خصوصا منطقة سلسلة جبال لبنان الشرقية، التي تمتد في شرق البقاع من بلدة حدود النبي شيت - جنتا وصولا إلى سرغايا الزبداني في ريف دمشق"، ويصفها ريحان بأنها "شريان أساسي لإمداد السلاح".
ويرى متابعون أن الجبال والمعابر في تلك المنطقة استخدمها حزب الله لنقل وتخزين الأسلحة من إيران مرورا بالعراق وسوريا وصولا إلى لبنان.
واستطاع حزب الله فرض سيطرته على المنطقة الحدودية، ليس من الجانب اللبناني فقط انما من الناحية السورية.
وبسط نفوذه العسكري على ريف حمص والقلمون والزبداني محولا هذه الحدود إلى بوابة دعم استراتيجية.
قبل عام 2011، لم يكن هناك تهريب كبير للسلاح برأي الخبير العسكري والاستراتيجي العميد ناجي ملاعب، حيث "كان السلاح يدخل الحدود لصالح بعض الفصائل في المخيمات الفلسطينية في لبنان بعيدا عن الدولة، إضافة إلى السلاح الذي ينقل لحزب الله، لكن المشهد تبدل وتعاظم بعد اندلاع الحرب السورية، ودخول حزب الله في القتال هناك".
ويشير ملاعب الى أنه "بعد عام 2013، وتحديدا بعد سيطرة الحزب على منطقة القصير، تحولت هذه المنطقة إلى محطة لتخزين السلاح، وبات التهريب واضحا وفاقعا".
ولسنوات، شكلت هذه الحدود شريانا خفيا لتدفق وتحرك السلاح والمقاتلين، حيث اعتبرت تلك المنطقة ممنوعة حتى على أجهزة الدولة الرسمية.
ويروي الصحفي الاستقصائي رياض طوق أن "الأجهزة الأمنية اللبنانية كانت في بعض الأحيان تغض النظر بسبب الثقل الأمني والعسكري لحزب الله".
ويضيف طوق أن "حزب الله فرض سكك التهريب هذه كأمر واقع على الدولة اللبنانية باعتبارها أساسا لمشروعه السياسي".
وأشار إلى أن "الحزب شكل سلطة أمنية وسياسية أقوى من سلطة الدولة في مناطق الحدود التي سيطر عليها".
لكن حسابات التهريب هنا لم تكن أمنية فقط بل سياسية وإيديولوجية وإقليمية، هذا ما يقوله الباحث السياسي داوود رمال الذي اعتبر أن "حزب حول الحدود الشرقية الشمالية منذ عام 2005 إلى خط دفاع أول إقليمي له، وتعاطى مع هذه الحدود على أنها خط دفاع عن مشروعه، المتعلق بشكل رئيسي بمشروع التمدد الإيراني في هذه المنطقة".
تطورات دراماتيكية قطعت طريق الإمداد
خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، غرق البقاع والمناطق الحدودية السورية واللبنانية بسلسلة عنيفة من الغارات استمرت طوال فترة الحرب.
واستهدفت إسرائيل معظم المعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية متهمة الحزب باستخدامها لنقل السلاح.
وبرأي ريحان، فإن بعض هذه الغارات المكثفة على المنطقة الحدودية "تتعلق باستهداف سلاح حزب الله ومخازنه على الجانبين السوري واللبناني، إضافة إلى المعابر التي يستخدمها لنقل السلاح إلى لبنان".
تطور آخر فاجئ حزب الله بعد الحرب الإسرائيلية، تمثل بسقوط النظام السوري في دمشق، الأمر الذي ساهم في تضييق الخناق عليه وقطع طريق الإمداد الرئيسي لسلاحه هذا.
ويشير رئيس تحرير موقع "جنوبية" الباحث علي الأمين إلى أن "الإشكالية الكبرى التي وقع فيها حزب الله لا بل فوجئ فيها، عندما وقع اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر الماضي، حيث كان رهانه على أن الحدود اللبنانية السورية ستبقى معبرا لإدخال السلاح من دون أي تغيير في المشهد، لكن سقوط النظام السوري قلب كل الموازين والحسابات، لتصبح عمليات نقل السلاح إلى لبنان شبه مستحيلة".
بفقدان حزب الله حليفا أساسيا له في دمشق، انهارت معادلة خط الإمداد.
ومع تغير اللاعبين على جانبي الحدود، أصبح نقل السلاح من سوريا إلى لبنان أمرا بالغ الخطورة وبالغ الصعوبة بالنسبة لحزب الله.
ويتفق الباحث في معهد "كارنيغي" في الشرق الأوسط مهند الحاج علي مع وجهة النظر هذه، ويقول إن "حزب الله فقد هذا الدور خصوصا مع فقدانه حليفا أساسيا له في سوريا، ووجود خصوم له في الداخل السوري وعلى الحدود مع لبنان، وبالتالي فإن الإجراءات الأمنية على الحدود اللبنانية السورية لجهة مناطق نفوذ حزب الله بالبقاع الشمالي أصبحت أقسى ما ساهم بإضعاف قدرته على إدخال السلاح والاحتفاظ بمنطقة الحدود كمنطقة نفوذ أمني من دون حدود".
محاولات لكسر الواقع الجديد
خلال الأشهر الماضية، تمكنت أجهزة الأمن السورية من ضبط شحنات أسلحة وذخائر كانت معدة للتهريب إلى لبنان.
وفي أواخر شهري مايو ويونيو ضبطت الأجهزة السورية شحنة كبيرة من الأسلحة من القصير كانت معدة للتهريب إلى حزب الله في لبنان، وفق البيانات السورية الرسمية.
وفي المقابل نفذ الجيش اللبناني عشرات العمليات الأمنية في البقاع اللبناني، نجح فيها بدهم عدة مناطق وضبط كميات كبيرة من الأسلحة.
ووصلت إلينا معلومات، أفادت أن حزب الله حاول تمرير بعض الأسلحة من سوريا خلال الأيام الأولى من سقوط النظام، عبر دفع أموال لمافيات أو جهات سورية، بعدما أصبح من شبه المستحيل تنفيذ ما كان يقوم به في السابق، لكننا لم نستطع التأكد من هذه المعلومات.
ويرجح لنا بعض الخبراء، أن حزب الله اليوم بات يعتمد على مافيات وعصابات بين جانبي الحدود لتأمين إدخال الأسلحة والذخائر، لكننا أيضا لم نتمكن من تأكيد هذه الفرضيات.
المعادلات تغيرت لعدة أسباب
يجمع المراقبون على أن المعادلات تبدلت اليوم، فالحدود تخضع لرقابة مشددة من النظام السوري الجديد، ولإجراءات معززة من الجانب الرسمي اللبناني، ولرقابة دولية لخط الحدود، ولمراقبة إسرائيلية من الجو، حيث تقوم إسرائيل بقصف أي تحركات تصفها بالمريبة وتستهدفها بالمسيرات والطائرات.
"العين الاقليمية والدولية على هذه الحدود مركزة"، بحسب الأمين، وستبقى العين هناك كما يقول ريحان، الذي اعتبر أن "الولايات المتحدة تراقب هذه المنطقة والطرقات والمعابر بشكل شبه يومي عبر طائرات الاستطلاع أو عبر الأقمار الاصطناعية".
ولتأكيد هذه التغيرات، يقول رمال إن "الفرصة مؤاتية اليوم لضبط الحدود بعد سقوط المشروع الإيراني في المنطقة"، ليضيف طوق: "لا حزب الله اليوم يخيف الدولة، ولا الدولة الرسمية تشبه لبنان الرسمي في السابق، وبالتالي لا بد من ضبط هذه المنطقة وعودتها إلى كنف الدولة".
ومع تغير المعادلات هذه وقطع طريق الإمداد، قد يكون تهريب وتمرير السلاح الثقيل في هذه المنطقة توقف، على الأقل مرحليا.
لكن الأسئلة تبقى حول استمرار تهريب السلاح المتوسط والخفيف عبر طرق أخرى رغم صعوبتها، لينتقل تهريب السلاح من كونه تهريب سياسي وإيديولوجي إلى تهريب ينفذه آخرون نيابة عن الحزب بعناوين أخرى.
وبالمحصلة، طريق الإمداد لم تعد سالكة، لكنها قد تكون ساكنة بانتظار فرصة ما أو تغير قد يحدث في ميزان القوى.