في الوقت الذي تكرّر فيه الإدارة الأميركية تأكيدها على ضرورة توحيد الأراضي السورية ودمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن جيش وطني موحد، خصصت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، مبلغ 130 مليون دولار في موازنة عام 2026 لدعم قسد و"جيش سوريا الحرة"، بهدف مواصلة الحرب ضد تنظيم "الدولة".
المفارقة أن هذا الدعم يأتي بعد تصريحات أميركية – بينها ما أعلنه المبعوث الخاص توماس بارك – شددت على ضرورة دمج قوات قسد ضمن الجيش السوري الجديد، مع التأكيد على أهمية وحدة سوريا وبناء مؤسسات أمنية وطنية جامعة، مما يضع الإدارة الأميركية أمام تناقض واضح بين خطابها السياسي وتحركاتها الفعلية على الأرض.
هذا التناقض في الموقف الأميركي يطرح تساؤلات حول مدى وضوح الرؤية الأميركية في الملف السوري، وما إذا كانت واشنطن ترى في قسد حليفاً عسكرياً مؤقتاً في معركة الإرهاب، أم شريكاً دائماً في ترتيبات ما بعد النزاع، رغم ما يرافق ذلك من حساسيات محلية وإقليمية.
عودة داعش تعيد الدعم لقسد
حذر مسؤولون إقليميون وحلفاء غربيون من عودة نشاط تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق، مستفيدًا من الفراغ الأمني الذي خلفه سقوط نظام بشار الأسد. وأفادت وكالة "رويترز"، نقلًا عن أكثر من 20 مصدرًا من كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين في المنطقة وأوروبا والولايات المتحدة، بأن التنظيم بدأ في إعادة تفعيل خلاياه، وتحديد أهداف جديدة، بالإضافة إلى تعزيز عمليات التجنيد، وتوزيع الأسلحة، وتكثيف الدعاية في كلا البلدين.
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة تجد نفسها بحاجة إلى استمرار دعم "قسد" وبعض الفصائل السورية التي درّبتها، لمواجهة خطر داعش في شرق سوريا، في ظل الشكوك حول قدرة دمشق على تولي المهمة، لا سيما أنها لا تسيطر على معظم المناطق التي ينشط فيها التنظيم بكثافة.
وفي هذا السياق، أوضح تشارلز ليستر، رئيس "برنامج سوريا" في "معهد الشرق الأوسط" – وهي مؤسسة بحثية أميركية – أن "الحكومة السورية الحالية منهكة أمنيًا، ولا تملك القوة البشرية الكافية لتعزيز السيطرة على كامل البلاد".
إلى جانب ذلك، ترى الإدارة الأميركية أن من السابق لأوانه التخلي عن "قسد" أو غيرها من الفصائل التي تدعمها في سوريا، كما أنها ليست في وارد الانسحاب الكلي من هذا البلد، إذ إن ذلك سيشكّل انتكاسة في الحرب ضد تنظيم داعش، بحسب تقييمات وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
من جهته، يوضح عامر العبدالله، الباحث المهتم بشؤون الجزيرة السورية في مركز الحوار السوري، أن الدعم الأميركي يشمل أيضًا "جيش سوريا الحرة" في منطقة التنف، وهو أحد الفصائل التي حضرت مؤتمر "النصر"، الذي فوض أحمد الشرع برئاسة الجمهورية. ويتابع العبدالله في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن تضمين واشنطن لهذا الفصيل ضمن الدعم المخصص إلى جانب "قسد"، يُعد مؤشراً على أن هذا الدعم لا يحمل طابعًا سياسيًا كبيرًا، بل يأتي في سياق الخشية من حصول فراغ أمني في مواجهة داعش.
رسائل إلى دمشق
لا يُقرأ الدعم الأميركي الأخير لـ"قسد" في موازنة البنتاغون من زاوية ميدانية أو عسكرية فقط، بل يحمل – وفق محللين – أبعاداً سياسية تتجاوز حدود الشراكة في مكافحة الإرهاب، لتصل إلى رسائل مبطّنة موجّهة إلى دمشق، مفادها أن "قسد" يجب أن تُؤخذ بجدية في أي عملية مستقبلية لإعادة بناء المؤسسة العسكرية السورية.
وكان المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، قد أكد في لقاء سابق مع قناة "NTV" التركية أن "قسد حليف بالنسبة لنا، والدعم المقدّم لهم هو دعم لحليف، وهذا أمر مهم جداً بالنسبة للكونغرس الأميركي".
وأضاف: "يجب توجيه هذا الدعم نحو دمجهم في جيش سوريا الجديد المستقبلي. يجب أن تكون توقعات الجميع واقعية"، مشيراً إلى أهمية العمل على إدماج وحدات حماية الشعب (YPG) ضمن البنية العسكرية الجديدة في سوريا.
في هذا السياق، يرى الباحث المتخصص في شؤون الأمن وجماعات ما دون الدولة، عمار فرهود، أن إظهار هذا الدعم المالي لـ"قسد" هو أيضاً رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة، بأن هذا المكوّن الكردي – رغم كل التعقيدات – يجب أن يكون جزءاً فاعلاً من الجيش السوري الجديد.
ويضيف فرهود لموقع تلفزيون سوريا: "الدعم هو إحدى أدوات التفاوض غير المباشر، لإقناع دمشق بأهمية إدماج قسد، وفي الوقت نفسه لا يمكن إغفال التصريحات الأميركية التي دعت دمشق إلى تحمّل مسؤولياتها في إدارة معسكرات داعش، لكن الهدف ليس نقل السيطرة من طرف إلى آخر، بل إيجاد أرضية أمنية مشتركة يمكن البناء عليها سياسياً لاحقاً".
من جانبه، يشير الباحث عامر العبدالله إلى أن هذه الرسائل الأميركية تحمل طابع الضغط غير المباشر على دمشق، للتأكيد أن "قسد" ما زالت قوة يُعتمد عليها على الأرض، وخاصة في ظل استمرار المفاوضات المتعثرة بين الطرفين حول اتفاق آذار.
وينصّ اتفاق آذار، الموقع بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، على دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية، والمطار، وحقول النفط والغاز. لكن حتى الآن لم يُنفذ هذا البند، حيث تطالب "قسد" بمنحها الوقت الكافي لتنفيذه، إلى جانب بنود أخرى.
وحدة العقيدة القتالية
لا تقتصر الشراكة بين الولايات المتحدة و"قسد" على البُعد السياسي أو الأمني فقط، بل تمتد إلى عمق العقيدة القتالية والتناغم الميداني، وهو ما يفسّر – بحسب محللين – استمرارية الدعم الأميركي لـ"قسد" رغم كل التعقيدات السياسية.
وقد عبّر عن هذا الانسجام العسكري قائد القيادة الوسطى الأميركية (CENTCOM)، الجنرال مايكل "إريك" كوريلا، خلال لقائه مع قادة "قسد" في آذار 2025، حيث قال:
"شركاؤنا السوريون يتقنون فن التنسيق والنار خلال التدريبات الحية، ويُظهرون كفاءة عالية في مكافحة الإرهاب."
هذا التصريح يعكس حجم التقارب العملياتي والعقائدي بين الطرفين، ويُفسّر جزئياً تمسّك البنتاغون بـ"قسد" بوصفها شريكاً ميدانياً موثوقاً.
وفي هذا السياق، يرى الباحث عمار فرهود أن تمسّك البنتاغون بقوات "قسد" يعود إلى تطابق العقيدة القتالية بين الطرفين، نتيجة سنوات من التدريب والتسليح الأميركي المباشر. ويشير إلى أن وزارة الدفاع الأميركية تعتبر "قسد" و"جيش سوريا الحرة" شريكين موثوقين ومؤهلين ميدانياً، على عكس الرؤية الأقل حماسة من جانب الخارجية الأميركية والبيت الأبيض.
ويضيف فرهود أن التعاون الأميركي مع الحكومة السورية الجديدة يقتصر حالياً على المجالين الأمني والاستخباراتي، في حين يفتقر الجيش السوري الجديد إلى عقيدة قتالية متوافقة مع المنظومة العسكرية الأميركية، ما يجعل "قسد" الخيار الأجدر بالثقة من منظور العمليات الميدانية.
وفي سياق التعاون الأمني بين دمشق وواشنطن، كشفت صحيفة واشنطن بوست أن الولايات المتحدة شاركت معلومات استخباراتية حساسة مع الحكومة السورية الجديدة، التي تقودها هيئة تحرير الشام، رغم تصنيفها سابقاً كمنظمة إرهابية.
وبحسب التقرير، ساعدت الاستخبارات الأميركية في إحباط هجوم وشيك لتنظيم الدولة الإسلامية على مزار السيدة زينب قرب دمشق، عبر تبادل معلومات تمّ من خلال قناة خلفية، بدافع مشترك لمنع عودة التنظيم.
البُعد الإسرائيلي في دعم "قسد"
رغم أن الدعم الأميركي لقوات "قسد" غالباً ما يُقدَّم في سياق الحرب على الإرهاب أو التوازنات في شرق سوريا، إلا أن قراءة أعمق للمشهد تكشف عن أيدٍ خفية تؤثّر في صناعة القرار الأميركي، وعلى رأسها إسرائيل، التي لطالما اعتبرت "قسد" أحد المكونات التي يمكن الاستثمار فيها لمواجهة أعدائها الإقليميين وتنفيذ أجنداتها الجيوسياسية.
وفي ظل النفوذ الإسرائيلي المعروف داخل دوائر صنع القرار في واشنطن، تُطرح تساؤلات جدية حول ما إذا كانت تل أبيب قد لعبت دوراً في تثبيت الدعم الأميركي لـ"قسد"، أو على الأقل دفعت باتجاه عدم التخلي عن هذه القوة التي أثبتت فعاليتها ضد "داعش"، وفي الوقت نفسه لا تُشكّل تهديداً مباشراً لإسرائيل.
وفي هذا السياق، يرى الباحث السياسي علي تمي أن إسرائيل تلعب دوراً محورياً في دفع الولايات المتحدة نحو مواصلة دعم "قسد"، ليس فقط لحمايتها من التفكك، بل ضمن مشروع جيوسياسي أوسع يمتد من العراق إلى السويداء وصولاً إلى ميناء حيفا.
ويشير تمي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا إلى أن وكالة الاستخبارات الأميركية تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية، بينما يحاول البيت الأبيض، وخاصة الرئيس دونالد ترامب، تجنّب التصادم مع تركيا والحكومة السورية الجديدة.
ويتوقع تمي أن ترامب سينفّذ اتفاق 10 آذار بالانسحاب من سوريا (باستثناء قاعدة التنف)، ما يعني تخلّي واشنطن عن "قسد" رغم معارضة داخلية من قادة "الليكود" و"الموساد".
هذا التحليل يجد ما يدعمه على لسان قائد "قسد"، مظلوم عبدي، الذي صرّح في 6 آذار الماضي بأن قواته "ترحب بالدعم الإسرائيلي لحماية الإنجازات الكردية"، واصفاً إسرائيل بأنها "قوة ذات نفوذ في الولايات المتحدة والغرب والشرق الأوسط".
وأضاف عبدي في تصريح لمراسل شبكة BBC: "إذا استطاعت إسرائيل منع الهجمات ضدنا ووقف قتل شعبنا، فنحن نرحب بذلك ونقدّره".