من الرسومات الخفيفة على الأذرع إلى النقوش الظاهرة على الرقاب والوجوه، باتت ظاهرة "الوشم" في العراق تنتشر بوتيرة متسارعة، خصوصًا بين أوساط الشباب والمراهقين، وحتى الأطفال في بعض الحالات. لم تعد هذه الرموز مجرد زينة شخصية أو تقليد لحالات فنية أو رمزية، بل أصبحت تعبّر أحيانًا عن خلل اجتماعي، وانفلات ثقافي، بل وحتى خطر صحي يهدد الفئات الأكثر هشاشة.
يقول الباحث والأكاديمي الدكتور نبيل العزاوي، في حديث لـ"بغداد اليوم"، إن "الوشم بات ظاهرة منتشرة بكثرة، بين الشباب والنساء، وبصورة غير معهودة سابقاً"، محذرًا من أن هذا التوسع المقلق يرتبط ارتباطًا مباشرًا بـ"الانفتاح الواسع الذي شهدته البلاد، خاصة بعد انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي".
ويضيف العزاوي أن "الوشم لم يعد يقتصر على فئة معينة، بل تجاوز حدوده التقليدية ليشمل المراهقين والمراهقات، وحتى الأطفال، الأمر الذي يتطلب رقابة فورية ومتابعة دقيقة، لمنع تحوّل هذه الظاهرة إلى نمط سلوك دائم".
وشم بلا وعي.. وأمراض بلا وقاية
الخطورة لا تكمن فقط في الشكل أو الدلالة الرمزية لبعض الأوشام، وإنما في البعد الصحي الذي قد يُهمل في غمرة التقليد. يحذر العزاوي من أن هذه الممارسات قد تتسبب بـ"أمراض جلدية خطيرة، واحتمال انتقال الأمراض نتيجة الأدوات غير المعقمة أو ضعف الرقابة على العاملين بهذا المجال".
ففي ظل غياب القوانين الصارمة لتنظيم مراكز التجميل أو الرقابة على الأدوات المستخدمة، تنتشر بعض حالات الإصابة بالتهابات مزمنة أو أمراض معدية، خصوصًا في المناطق الشعبية حيث تُجرى هذه العمليات في أماكن غير صحية، وغالبًا ما تكون على يد أشخاص غير مختصين.
ما بين التمرد والهوية
تُظهر قراءة سوسيولوجية للظاهرة أن الوشم قد يكون تعبيرًا عن التمرد على الواقع، أو البحث عن هوية فردية في مجتمع يغلب عليه الطابع الجمعي. لكنه في السياق العراقي، يأخذ طابعًا اصطداميًا، خاصة عندما يظهر على الوجوه أو في مناطق ظاهرة من الجسد، بما يصطدم مع الأعراف الاجتماعية السائدة، خصوصًا في المحافظات التي تتمسك بالهوية العشائرية والقيم الدينية المحافظة.
ويشير العزاوي إلى أنه "من غير المقبول أن نشاهد وشوماً على الوجه والرقبة والأرجل، في مجتمع عشائري مثل العراق، وهذا يؤشر إلى خلل تربوي وثقافي يتطلب وقفة جادة من الأهل أولًا، ثم من الجهات التربوية والاجتماعية".
غياب التنظيم القانوني
حتى الآن، لا يوجد قانون واضح ينظم عمليات الوشم في العراق، ولا رقابة صحية فاعلة على الأدوات والمراكز التي تقدم هذه الخدمة. معظم عمليات "التاتو" تتم بشكل غير رسمي، في المنازل أو محلات غير مرخصة. كما أن غياب التثقيف الصحي والتوعية الاجتماعية ساهم في تفاقم الظاهرة، حيث تُنظر إلى الوشم كجزء من "الموضة" أو تقليد الفنانين والمشاهير، دون وعي بالعواقب الصحية والاجتماعية.
الظاهرة باتت تحتاج إلى أكثر من مجرد "إدانة أخلاقية" من المجتمع، بل تتطلب استجابة متعددة الأوجه: تثقيفية، وصحية، وقانونية، وأسرية. فالدولة مطالبة بتنظيم مراكز التجميل، وتقييد استخدام أدوات الوشم، فيما تتحمل الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية مسؤولية التوجيه، وبناء وعي ثقافي يجعل من الجسد شيئًا يُصان لا يُستغل كلوحة تجريب.