تبرز العملات المشفرة وعلى رأسها "بتكوين"، في خضم التحولات المتسارعة التي تشهدها الأسواق المالية، بوصفها إحدى أكثر الأصول إثارة للجدل؛ فبين من يعتبرها "ذهباً رقمياً" قادراً على التحوط من تقلبات النظام المالي التقليدي، ومن يراها مجرد فقاعة مضاربية مرتبطة بمزاج المستثمرين، لتتعدد الرؤى حول موقعها الحقيقي ضمن الخريطة الاستثمارية العالمية.
تكتسب هذه النقاشات زخماً إضافياً مع اقتراب محطات تنظيمية واستثمارية مهمة، في وقت تتزايد فيه الرهانات على صعود البتكوين إلى مستويات غير مسبوقة، مدفوعة بتنامي الإقبال المؤسسي، وزيادة الاهتمام السياسي والتنظيمي بأطر تداول الأصول الرقمية. كما يعاد رسم العلاقة بين البتكوين والأسواق التقليدية، خصوصاً أسهم التكنولوجيا، في ضوء تطورات ما بعد جائحة كورونا.
يشير تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية إلى أنه:
في حين تبنت المؤسسات على نطاق واسع مفهوم "الذهب الرقمي" لبتكوين، إلا أنه لا يزال أصلاً محفوفاً بالمخاطر، يرتفع وينخفض جنباً إلى جنب مع الأسهم، وذلك حسب العوامل التي تُحرك معنويات المستثمرين.
عندما تكون السوق في حالة إقبال على المخاطرة، ويشتري المستثمرون أصولاً مُوجهة نحو النمو، مثل أسهم التكنولوجيا، يميل بتكوين والعملات المشفرة إلى الارتفاع معها.
المستثمرون يتوقعون أن يصل سعر البتكوين إلى مستويات قياسية جديدة في النصف الثاني من العام مع تسريع خزائن الشركات لعمليات شراء البتكوين واقتراب الكونغرس من تمرير تشريعات العملات المشفرة.
ومع اقتراب أسبوع العملات المشفرة الأسبوع المقبل في واشنطن العاصمة، واحتمالية تدفق زخم إيجابي مع اقتراب فصل الصيف، قد يؤدي الشعور الإيجابي وانخفاض أحجام التداول إلى ارتفاع الأسعار إلى 120,000 دولار أو أكثر بنهاية الأسبوع المقبل، وفقًا لريان غورمان، كبير مسؤولي الاستراتيجية في شركة يورانيوم ديجيتال.
وأضاف: "لا أحد يعلم إلى أي مدى سنرتفع خلال الصيف، لكن الاهتمام بخيارات الشراء المفتوحة يفوق خيارات البيع، مما يكشف عادةً عن تفاؤل المتداولين وتوقعهم استمرار زخم الأسعار الصاعدة".
يذكر أن أكبر عملة مشفرة في العالم قد صعدت صباح الجمعة إلى ذروة جديدة عند 117840دولار، مسجلة بذلك ارتفاعا بنحو 26 بالمئة منذ بداية العام الجاري.
علاقة البتكوين بأسهم التكنولوجيا
من جانبه، يقول خبير أسواق المال العضو المنتدب لشركة "أي دي تي"، محمد سعيد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن العلاقة بين أداء البتكوين وأداء أسهم التكنولوجيا أصبحت واضحة للغاية خلال السنوات الأخيرة، مشيراً إلى أن البتكوين لم يعد يُنظر إليه كأصل مستقل عن الأسواق المالية التقليدية كما كان في السابق، بل تغير هذا المفهوم جذرياً بعد جائحة كورونا.
ويوضح أن البتكوين بات يتحرك بشكل شبه متزامن مع أسهم التكنولوجيا، خاصة في أوقات التقلبات الكبيرة أو عند حدوث أحداث اقتصادية مؤثرة، مثل قرارات رفع أسعار الفائدة أو فرض رسوم جمركية جديدة، مضيفاً: هذه العلاقة ظهرت بجلاء مع تزايد شهية المخاطرة في السوق، إذ يتجه المستثمرون إلى ضخ أموالهم في أصول عالية العائد مثل أسهم التكنولوجيا والبتكوين في أوقات التفاؤل، بينما يشهد الاثنان تراجعاً مشتركًا في حال تصاعد المخاوف من الركود أو حدوث موجات بيع عنيفة.
ويبيّن سعيد أن:
السبب الرئيسي لهذا الترابط يعود إلى أن البتكوين وأسهم التكنولوجيا يُصنفان كأصول عالية المخاطر، ما يجعلها أكثر حساسية لقرارات السياسة النقدية، كرفع الفائدة من قبل الفيدرالي الأميركي أو انخفاض السيولة في الأسواق.
كما أن دخول المؤسسات المالية الكبرى وصناديق الاستثمار إلى سوق الكريبتو زاد من ارتباطها بالسوق التقليدية، ليصبح سلوكها قريباً جداً من سلوك أسهم كبرى شركات التكنولوجيا مثل Nvidia وTesla وApple.
الأداء القوي لأسهم التكنولوجيا ينعكس غالبًا على أداء البتكوين (..) مما يدل على أن المزاج الاستثماري العام بات المحرك الرئيسي لكلا الأصلين، وليس العوامل الخاصة بكل منهما.
ويختتم خبير أسواق المال حديثه بالتأكيد على أن العلاقة بين البتكوين وأسهم التكنولوجيا أصبحت علاقة "مزاجية" بامتياز، ترتبط بالسيولة وحب المخاطرة لدى المستثمرين، لافتًا إلى أن من يبحث عن تنويع حقيقي في محفظته الاستثمارية يجب أن يتوجه إلى أصول أخرى، لأن السوق بات يصنف البتكوين وأسهم التكنولوجيا ضمن نفس الفئة الاستثمارية تقريباً.
سهم تكنولوجيا آخر
وتقول ستاندرد تشارترد إن البتكوين يرتبط بشكل أوثق بمؤشر ناسداك مقارنة بالذهب في معظم الأوقات، ويمكن للمستثمرين الاستفادة من النظر إليه باعتباره سهمًا كبيرًا آخر في مجال التكنولوجيا.
ويبلغ ارتباط بتكوين بمؤشر ناسداك حاليًا حوالي 0.5، بعد أن اقترب من 0.8 في وقت سابق من هذا العام، وفقًا للبنك.
في الوقت نفسه، يتراجع ارتباطه بالذهب منذ يناير، حيث لامس الصفر في مرحلة ما، وهو الآن أعلى بقليل من 0.2، بحسب تقرير لشبكة "إن بي سي نيوز".
وقال الرئيس العالمي لأبحاث الأصول الرقمية في ستاندرد تشارترد، جيف كندريك، في مذكرة: "يرتبط تداول البتكوين ارتباطًا وثيقًا بمؤشر ناسداك على المدى القصير. ويؤدي هذا الارتباط مع ناسداك إلى فكرة إمكانية إدراج البتكوين ضمن سلة من أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى؛ وإذا تم إدراجه، فسيكون ذلك انعكاسًا لزيادة عمليات الشراء المؤسسية، حيث سيخدم البتكوين أغراضًا متعددة في محافظ المستثمرين".
يُنظر إلى بتكوين غالبًا على أنها "ذهب رقمي" وأداة تحوط ضد المخاطر التي تواجه القطاع المالي التقليدي. صرّح كندريك بأنه لا يزال يرى أن هذه العملة المشفرة الرائدة تُحقق هذا الغرض، لكن "في الواقع الحاجة إلى مثل هذه الأدوات التحوطية نادرة جدًا".
ارتباط واضح
يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن التشارك في الحركة بين البتكوين والأسهم التكنولوجية بدأ بشكل واضح منذ العام 2020، عندما انطلقت موجة الارتفاعات في الأسواق المالية، وسجلت البتكوين مستويات قياسية في ظل بيئة فوائد متدنية أسهمت في خلق شهية مرتفعة للمخاطرة.
ويضيف: "عندما تكون شهية المخاطرة في أوجها، نرى ارتفاعات متزامنة في الأصول عالية المخاطر، مثل العملات المشفرة وأسهم التكنولوجيا، لكن عند تراجع هذه الشهية، نشهد موجات بيع وتصحيحات واضحة في كلا السوقين، كما حصل خلال تصحيح عام 2022 عقب تداعيات جائحة كورونا".
ويشير يرق إلى أن أي تحفيز مالي أو تخفيض في أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية يُعتبر دافعاً قوياً للأسواق، حيث تستفيد الأسهم، لا سيما التكنولوجية منها، وكذلك البتكوين من هذه السياسة التوسعية.
ويتابع: "مع تزايد السيولة وتنظيم قطاع العملات المشفرة، بدأنا نلاحظ توجه المستثمرين نحو هذا القطاع، بالتوازي مع الطفرة الكبيرة في الذكاء الاصطناعي، الذي نعدّه جزءًا من قطاع التكنولوجيا. وكما أن الذكاء الاصطناعي يمثل أداة من أدوات المستقبل، فإن العملات المشفرة تشكّل بُعدًا ماليًا لهذا المستقبل".
ويشدد على أن العلاقة بين البتكوين والتكنولوجيا لم تكن دائمًا متزامنة، وكانت تمر بفترات من الانفصال، لكن في الوقت الحالي نلاحظ ترابطًا وثيقًا ناتجًا عن عوامل مشتركة ومحفزات اقتصادية واحدة، مما يعزز من استدامة هذا الارتباط خلال الفترة المقبلة.