في خضم العلاقة المتقلبة بين لبنان وسوريا، برز ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية كمادة مشتعلة قابلة لتفجير أزمة سياسية جديدة بين البلدين. فبينما تتحدث مصادر حقوقية عن ظروف احتجاز قاسية يعيشها أكثر من ألفي سجين سوري داخل الزنازين اللبنانية، تتهم دمشق، بيروت بـ"التسويف والمماطلة" في معالجة هذا الملف الإنساني والأمني، ما اعتُبر رسالة غضب سياسي عبّرت عنها دمشق خلال الأسابيع الماضية عبر قنوات دبلوماسية وإعلامية مختلفة.
وتتجه الأنظار إلى هذا الملف بوصفه واحداً من أكثر القضايا حساسية في العلاقات اللبنانية–السورية بعد سقوط نظام الأسد البائد، خاصة في ظل الحديث عن إجراءات سورية محتملة على المستوى الاقتصادي، كفرض قيود على حركة الشاحنات اللبنانية العابرة للأراضي السورية. وبينما تحذر الأوساط الاقتصادية اللبنانية من تداعيات هذه الأزمة، تلوّح دمشق بأن تسوية هذا الملف تشكّل اختباراً لجدية بيروت في بناء علاقة جديدة تقوم على الاحترام المتبادل والتنسيق المؤسسي.
في ظل هذا المشهد، تتراكم الأسئلة حول مصير أكثر من 2000 موقوف سوري، غالبيتهم دون محاكمات، يقبعون في ظروف توصف بالكارثية داخل السجون اللبنانية، وسط غياب واضح لأي رؤية تنفيذية تُنهي معاناتهم.
الشرع يلوح.. حل أو تصعيد
وتتعامل الإدارة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، مع ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية بوصفه قضية كيانية غير قابلة للتنازل أو التأجيل، مؤكداً أنه شرط أساسي لأي مسار تعاون سياسي أو اقتصادي بين بيروت ودمشق.
ووفق معطيات خاصة حصل عليها «تلفزيون سوريا»، فقد عبّر الشرع، خلال استقباله وفداً من دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية برئاسة مفتي لبنان الشيخ عبداللطيف دريان، عن استيائه الشديد من تلكؤ السلطات اللبنانية في معالجة هذا الملف، مشيراً إلى أن التجاهل المتكرر من بيروت لهذا "الملف الإنساني" لم يعد مقبولاً.
وأبلغ الرئيس السوري الوفد الديني اللبناني أنه قرر تكليف وزير الخارجية السوري، أسعد شيباني، بزيارة بيروت في الأيام القليلة المقبلة خصيصاً لبحث هذا الملف، مشدداً على أن هذه الزيارة ستكون بمثابة "الفرصة الدبلوماسية الأخيرة" قبل أن تتخذ دمشق خطوات تصعيدية سياسية ودبلوماسية متدرجة ضد الحكومة اللبنانية. كما أكد الشرع أن معالجة قضية الموقوفين هي أولوية قصوى تسبق أي نقاش في ملفات التعاون أو إعادة العلاقات أو حتى مسارات اللاجئين.
من جهته، عبّر وفد دار الفتوى، الذي ضم مفتي المناطق، عن امتعاضه البالغ من طريقة تعامل السلطات اللبنانية مع قضية الموقوفين السوريين، لا سيما ما يتصل بالتوقيف العشوائي وسوء المعاملة والتمييز في آليات المحاكمة والمعالجة القانونية.
وبحسب المعلومات، فقد أبلغ عدد من مفتي المناطق الرئيس السوري بأن الإهمال الرسمي اللبناني قد يفتح الباب أمام انفجار ملف آخر موازٍ، وهو ملف الموقوفين الإسلاميين اللبنانيين، الذي يضم قرابة 1500 سجين لبناني لا يزالون قيد الاحتجاز على خلفية دعمهم للثورة السورية، أو مشاركتهم في إيصال مساعدات أو دعم لوجستي لفصائل معارضة قاتلت نظام الأسد السابق.
وأشارت مصادر متابعة للّقاء إلى أن الوفد الديني ألمح إلى أن استمرار تجاهل هذا الملف قد يؤدي إلى تفجيره سياسياً داخل لبنان نفسه، لا سيما أن بعض القوى السياسية تستخدم ملف الموقوفين الإسلاميين كورقة مساومة سياسية وأمنية، وهو ما لا يمكن القبول به، وفق تعبيرهم.
في ضوء هذا المناخ المتوتر، تؤكد المعطيات أن دمشق تدرس بالفعل خيارات تصعيدية تدريجية، تبدأ بتجميد بعض القنوات الأمنية والاقتصادية، ولا يُستبعد أن تُقدم لاحقاً على خطوات أكثر حدة مثل إغلاق المعابر البرية أو فرض قيود صارمة على مرور الشاحنات اللبنانية، أو حتى إعادة النظر في التعاون الأمني الحدودي المشترك.
تحذيرات لبنانية.. تداعيات اقتصادية واجتماعية
بالتوازي أبدت مصادر سياسية لبنانية لـ«تلفزيون سوريا»، خشيتها من أن تشهد الأيام القليلة المقبلة تطوراً دراماتيكياً في مسار العلاقات بين بيروت ودمشق يتمثل بإقدام السلطات السورية على إقفال كامل المعابر البرّية مع لبنان، على اعتبار أن هذا السيناريو، إذا تحقق، سيقلب المشهد السياسي والأمني رأساً على عقب، في لحظة دقيقة تشهد فيها المنطقة تحولات متسارعة وترتيبات حدودية جديدة.
وتلفت المصادر إلى أنّ التحرّكات الاحتجاجية التي نفّذها أهالي الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية عند نقاط حدودية حسّاسة شكّلت إنذاراً أولياً على مستوى الاحتقان الشعبي، ما يُنذر بتصعيد أوسع ما لم تُبادر الحكومة اللبنانية فوراً إلى خطوات احتوائية. وتعتبر المصادر أن السلطات اللبنانية عليها مسؤولية الإسراع في معالجة ملف الموقوفين عبر آلية قضائية وإدارية واضحة تضمن حقوق المحتجزين وتضع حداً لأي استغلال سياسي أو أمني قد يدفع باتجاه إغلاق المعابر.
ويعتبر المصدر أن هذا "التعنت" في التعاطي مع الملف ينطوي على تدخلات سياسية لقوى متضررة من التغيير "التاريخي" الذي حصل في سوريا، وخاصة في ظل التوقيفات القضائية التي تشمل اللبنانيين المؤيدين للتغيير الحاصل في سوريا وليس فقط للسوريين، وخاصة بعد توقيف العقيد المتقاعد عميد حمود المعروف بعلاقته بقوى الثورة السورية والذي كان يدير مستوصفاً لمعالجة اللاجئين السوريين في طرابلس، عبر "فبركة" ملف له وتوقيفه.
على المستوى الاقتصادي، ينبّه الخبراء إلى أنّ أي تعطيل لحركة الشاحنات والأفراد عبر معبري المصنع والعبودية الرسميين سيضرب الشرايين البرّية التي يعتمد عليها لبنان في تصدير بضائعه إلى الأسواق الخليجية مروراً بالأراضي السورية. ويُظهر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنّ إغلاق هذه المعابر من شأنه أن يخفض النشاط التجاري بنسبة تصل إلى 21% ويضاعف الخسائر في قطاعات الزراعة والبناء والسياحة، في اقتصاد ينوء أصلاً تحت عبء الانكماش المزمن والأضرار التي خلّفتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
أما على الصعيد الإنساني، فإنّ الحدود اللبنانية-السورية تشكّل متنفّساً رئيسياً لحركة العودة الطوعية للاجئين السوريين. وتشير تقديرات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أنّ ما يفوق 628 ألف سوري عادوا عبر المعابر البرية في الفترة بين ديسمبر 2024 ويونيو 2025، ما يجعل أي إقفال جديد مدخلاً لأزمة إنسانية مزدوجة تطاول العائدين والمجتمعات اللبنانية المضيفة على السواء.