انضبط المشهد الداخلي في الساعات الماضية على إيقاع خطاب رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وانشغلت الأوساط السياسية على اختلافها في تشريح مضمونه، وقراءة الرسائل التي وجّهها إلى الداخل والخارج. وبمعزل عن أصوات النشاز المتوقعة من تجار التواصل الاجتماعي والمستثمرين على خراب البلد، الذين قابلوا الخطاب بالتشويش والتحريض، فإنّ تقييم الشريحة الكبرى من اللبنانيين لما طرحه بري، تقاطع عند اعتباره صرخة مدوّية في صحراء البلد، رمى من خلالها إلى إحداث هزّة في الوجدان الوطني، تؤسّس لالتقاء مكونات البلد على كلمة سواء، وشراكتهم، ليس فقط في تنقية المياه السياسية المعوكرة بالانقسامات والتناقضات والقرارات الخلافية التي وضعت البلد على حافة السقوط في إشكالات كبرى سياسية وغير سياسية، بل في تحويل التحدّيات والمخاطر الراهنة والداهمة التي يواجهها، إلى فرصة لكي يعيش لبنان واللبنانيون بأمن وعزّة وسلام.
تبريد أم تسخين؟
قال برّي كلمته، وحدّد مكمن الدّاء والدواء، وكرة العلاج باتت في ملعب سائر الشركاء لتلقف اليد الممدودة وملاقاته في منتصف الطريق، وجلسة مجلس الوزراء المحدّدة يوم الجمعة المقبل لعرض خطة الجيش حول سحب سلاح "حزب الله"، تشكّل المحطة الحاسمة التي ستحدّد مجرياتها وجهة الأمور، إمّا نحو تبريد مناخات التوتر السياسي الساخنة وترسيخ التعاون والاتفاق، واما نحو زيادة سخونتها أكثر وتعميق الخلاف والانقسام، والدفع بالبلد إلى الإنزلاق نحو الاحتمالات الصعبة.
وإذا كانت خطة الجيش اللبناني قد باتت منجزة وسيُحسم مصيرها في جلسة الجمعة، فإنّ مصادر موثوقة لـ"الجمهورية" تؤكّد انّ وزراء "الثنائي" سيشاركون في الجلسة، وأنّ بقاءهم او انسحابهم منها رهن بمجرياتها، حيث انّهم من جهة سيحضرون للإطلاع المباشر على خطة الجيش التي ستُعرض في الجلسة، ومن جهة ثانية انّهم وبعد سقوط الورقة الأميركية، وبعدما باتت باعتراف أهلها فاقدة للصلاحية وبلا أي قيمة، سيطرحون وقف العمل بقرار سحب سلاح الحزب، باعتبار انّ هذا القرار مبني على أساس الورقة الأميركية التي سقطت وفقدت صلاحيتها، وبالتالي فإنّ ما بُني على أمر ساقط وفاقد للصلاحية، صار بدوره ساقطاً فاقداً للصلاحية. فضلاً عن أنّ سبباً اضافياً يوجب ذلك، وهو أنّ اسرائيل أعلنت عبر مستوياتها السياسية والعسكرية انّها ستواصل عدوانها واغتيالاتها، وتُبقي على احتلالها الدائم للنقاط الخمس التي زادت نقاطاً اضافية".
سباق
على انّ اللافت للانتباه قبل ايام قليلة من جلسة مجلس الوزراء، هو خضوع حلبة سحب السلاح لسباق محموم بين داعميه ورافضيه. وفي هذا الإطار، كشفت مصادر واسعة الإطلاع لـ"الجمهورية"، أنّ حركة اتصالات ومشاورات مكثفة تجري بين مستويات سياسية ورسمية مختلفة تحت عنوان احتواء "أزمة القرارين"، وخصوصاً انّ الحكومة بعد سقوط الورقة الأميركية باتت في حلّ منها، وهذا السقوط منحها ذريعة صلبة للتحرّر من أيّ التزام مرتبط بها، كقرار سحب السلاح الذي صار بعد سقوط الورقة قراراً مجانياً لا يجني لبنان منه أي فائدة، بل بالعكس، في ظل التفلّت الإسرائيلي من أي التزام، وعملياته العدوانية اليومية. إلّا أنّ المصادر عينها لا تجازف في إبداء التفاؤل حيال بلوغ هذا الهدف، في ظل الدفع الخارجي الحثيث إلى سحب سلاح الحزب، حيث ليس مستبعداً في هذا المجال أن تتكرّر الضغوط ذاتها ومن قبل الجهات الخارجية ذاتها على "فريق القرارين"، التي فرضت اتخاذهما، وهذه المرّة للمضي قدماً في قرار سحب السلاح، ضمن الروزنامة الزمنية المحدّدة في قرار الحكومة، وهذا معناه فتح حلبة الاشتباك.
النزول عن الشجرة
وفيما أكّدت مصادر قيادية في فريق "الثنائي الشيعي" لـ"الجمهورية"، انّ "الرئيس بري في خطابه الذي اكّد فيه نعي الورقة الأميركية، مدّ لفريق الحكومة سلّماً لنزول سلس عن شجرة القرارين، وللجلوس على طاولة الحوار للحديث في كل الامور بما فيه مصير السلاح، وثمّة إشارات مؤيّدة لذلك أرسلتها جهات وزارية سبق أن أيّدت قرار سحب السلاح في جلسة 5 آب الماضي".
إلّا أنّ مصادر وزارية مؤيّدة لهذا القرار تؤكّد أنّ كل الفرضيات التي تقول باحتمال حصول تبدّل في موقف الحكومة تبعث على السخرية منها. وقالت لـ"الجمهورية": "اولاً لنكن واضحين، وهو انّ الحكومة لم توافق على الورقة الأميركية بل على أهدافها مع التعديلات التي أدخلها لبنان عليها. وثانياً فإنّ قرار الموافقة على أهداف الورقة الأميركية وقرار سحب السلاح، هما قراران منفصلان، وليسا مترابطين او متكاملين، ويؤكّد ذلك أنّ حصرية السلاح بيد الدولة جاء النص عليها بكل وضوح في خطاب القَسَم وفي البيان الوزاري، أي أنّه أمر محدّد قبل الورقة الاميركية بأشهر".
ورداً على سؤال قالت المصادر: "قرار حصر السلاح قد اتُخذ، وجانب منه بدأ تنفيذه في الجانب الفلسطيني، اما في ما خصّ سلاح "حزب الله"، فالحكومة ملتزمة بما تعهّدت به في بيانها الوزاري الذي شارك في صياغته وزراء الثنائي، ونالت على أساسه ثقة مجلس النواب، ومن بينهم نواب حركة "امل" و"حزب الله". ومن هنا لا أعتقد أنّ الحكومة في وارد العودة عن قرارها، بل ستمضي فيه، وفق الخطة التي سيضعها الجيش اللبناني لإتمامه".
ليونة رئاسية
وفي السياق ذاته، تحدثت مصادر مطلعة عمّا سمّتها "ليونة رئاسية" حيال ما طرحه برّي في خطابه، ولاسيما لناحية تأكيده على السلم الأهلي والحفاظ على الجيش اللبناني كضامن وحيد لأمن البلد واستقراره. وعكست أجواء تفيد بأولويّة العمل على وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وبرغبة جامحة في الخروج من هذه الأزمة، وتغليب التوافق والتفاهم على ما عداهما، والحفاظ على أفضل العلاقات مع كلّ مكوّنات البلد، وعلى الحدّ الأعلى من التعاون والشراكة والتلاقي معها لإنهاض لبنان، ويرقى إلى هذا المستوى من الأهمية، رفض الإخلال بالتوازنات الداخلية التي يقوم عليها البلد، كما رفض استهداف أيّ من مكوّنات البلد، او إشعار أي مكوّن بأنّه مستهدف، وهو ما جرى التأكيد عليه بصورة مباشرة وغير مباشرة لكلّ الأطراف من دون استثناء.
وضع لا تُحسد عليه
كما هو معلوم، فإنّ خطة سحب سلاح "حزب الله" سيعرضها قائد الجيش العماد رودولف هيكل في مجلس الوزراء، ويُقال إنّها ستوزّع على الوزراء قبل 48 ساعة من انعقاد الجلسة، الّا أنّ ذلك ليس مؤكّداً، بل تستبعده مصادر معنية، على اعتبار أنّ تسريب خطة الجيش إلى الإعلام قبل طرحها على مجلس الوزراء، قد يعرّضها للتشويه والتشويش. إلّا انّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال: أي قرار ستتخذه الحكومة في ضوء خطة الجيش؟
حول هذا الامر، يرسم مرجع سياسي مشهداً كاريكاتورياً، ويقول: "الأميركيون وغيرهم من "الأشقاء" ضغطوا للقرارين ورموا الكرة في ملعب الحكومة، التي بدورها رمت الكرة في ملعب الجيش وملعب "الثنائي"، "الثنائي" رفض القرارين وردّ الكرة إلى ملعب الحكومة، الأميركيون دعموا الحكومة بتسويق الورقة الأميركية ولكنه بإسقاطه ورقته حشر الحكومة، وعاد ورمى الكرة في ملعبها، والرئيس بري بعد سقوط الورقة رمى الكرة من جديد في ملعب فريق القرارين، والجيش في جلسة الجمعة سيعيد رمي الكرة في ملعب الجميع، يعني لعبة تقاذف كرة لا تنتهي. والحكومة في هذه اللعبة في وضع صعب لا تُحسد عليه، فهي في النهاية ستتخذ قراراً، والقرار الذي ستتخذه، وفقاً لطبيعته ووجهته، سيكون مكلفاً عليها داخلياً (هجومات واعتراضات وحراكات وما شابهها)، أو سيكون مكلفاً عليها خارجياً، وتحديداً من قبل الأميركيين وممن يصنّفون في خانة أصدقاء وأشقاء لبنان، والأرجح الّا تزعّل الأميركيين، وهذا يعني الاشتباك في الداخل".
ورداً على سؤال أكّد المرجع عينه على الثقة الكاملة بالجيش اللبناني وبحكمة قيادته، وقال: "من الأساس حذّرت من رمي كرة النار في يد الجيش ومن أي محاولة للتلطي خلف المؤسسة العسكرية لتحقيق غايات سياسية تداعياتها اكبر من أن يتحمّلها البلد بصورة عامة. وفي أي حال فإنّ الكلام الأخير لقائد الجيش في الاجتماع الاستثنائي مع الضباط الاسبوع الماضي، واكّد فيه على أولوية السلم الاهلي وأمن البلد واستقراره، يبعث على الطمأنية والارتياح، وعلى الثقة بأنّ الجيش في خطة حصر السلاح سيضع النقاط على الحروف. وأكاد اقول انّه سيحدّد المخرج الذي يحفظ ماء الوجه، ليس لطرف بعينه بل للجميع".
وعمّا يتردّد في بعض الأوساط عن احتمال تأجيل جلسة مجلس الوزراء، قال المرجع: "لا علم لي بذلك، فهذا الأمر ليس في يدي، ولكن يبدو انّ ثمة اصراراً على عقدها. ولكن ما يثير الريبة هو حصر الجلسة بهذا البند. وما أتمناه في هذا المجال هو أن يخيب ظني، ولا يصدق اعتقادي في أنّ في خلفيات البعض في "فريق القرارين" نوايا تصعيدية وتوجّهاً اكيداً للدفع في اتجاه ما لا نريده من توتير للداخل وصدام".
وكانت التحضيرات لجلسة مجلس الوزراء عرضها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون مع رئيس الحكومة نواف سلام خلال استقباله له في القصر الجمهوري في بعبدا.
كما بحث الرئيس سلام موضوع خطة الجيش مع قائد الجيش الذي زاره مساء أمس في السراي الحكومي.
مواقف داعمة
إلى ذلك، اكّد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والملك الاردني عبدالله الثاني في اتصال بينهما أمس، "أهمية دعم جهود سوريا ولبنان في الحفاظ على أمنهما واستقرارهما وسيادة أراضيهما". فيما رحّب مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في بيان صادر بعد اجتماعه في دورته الـ65 في الكويت أمس، "بإعلان رئيس الحكومة في الجمهورية اللبنانية الدكتور نواف سلام، قرار مجلس الوزراء القاضي بضمان حصر حيازة السلاح بيد الدولة في جميع أنحاء لبنان، استنادًا إلى اتفاق الطائف، والقرارات الدولية ذات الصلة. وأدان المجلس استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، مشدّداً على ضرورة تطبيق قرارات مجلس الأمن بشأن لبنان، وخاصة القرار 1701، مشيداً بجهود الوساطة التي تقوم بها الولايات المتحدة بهذا الخصوص، وعبّر عن رفضه للتصريحات والتدخّلات الخارجية في الشؤون الداخلية للبنان الشقيق".