الذكاء الاصطناعي يقود الإمداد الطبي في الخليج

يشهد قطاع الرعاية الصحية بدول مجلس التعاون الخليجي تحولاً متسارعاً، وتبرز سلاسل الإمداد الطبية كأحد أبرز العوامل الاستراتيجية التي تضمن فاعلية الخدمات الطبية وجودتها، لا سيما مع التوجه المتنامي نحو الابتكار وتوظيف الذكاء الاصطناعي وتقنيات إنترنت الأشياء. وفي ظل خطط التحول الوطني مثل «رؤية السعودية 2030»، لم تعد هذه السلاسل مجرد عمليات في الكواليس، بل أصبحت بنية تحتية حيوية تسهم مباشرة في تحسين النتائج الصحية وتقليل التكاليف وتعزيز الاستدامة.

يرى نزار المانع، الرئيس التنفيذي لشركة «الجهات الأربع» السعودية، أن التوجه العالمي الأبرز اليوم يتمثل في «التحول نحو نموذج الرؤية اللحظية والتحكم الدقيق»، الذي يقوم على دمج تقنيات الاستشعار المتطورة وأنظمة الإنذار المبكر وإدارة المخاطر التنبؤية. هذا التوجه، بحسب المانع، «يعزز سلاسل التبريد عبر أنظمة تحكم دقيقة في درجات الحرارة والرطوبة، مدعومة بتوثيق إلكتروني مستمر، وهو ما يقلل من المشكلات التشغيلية ويطيل العمر الافتراضي للمنتجات الحساسة».

ويضيف خلال حديث خاص مع «الشرق الأوسط» أن المنظومات اللوجيستية الحديثة تعتمد على رؤية تشغيلية آنية من خلال حساسات إنترنت الأشياء وأنظمة تتبع المواقع (GPS)، تتيح مؤشرات وتنبيهات فورية عند أي تجاوز في درجات الحرارة أو انحراف في المسارات، ما يعزز الشفافية ويحد من الهدر الدوائي.

نحو لوجيستيات استباقية

في ظل تعقيد حركة الشحنات الطبية وسرعة تغير الطلب، يُعد الذكاء الاصطناعي عنصراً مفصلياً. ويوضح المانع أن الذكاء الاصطناعي يمثل ركيزة أساسية لمستقبل القطاع عبر أتمتة عمليات تحليل الطلب ووضع خطط التوريد المثلى، بما يقلل من مخاطر نقص المخزون أو تراكم الفائض.

ويكشف أن من الابتكارات المنتظرة تقنياً في المملكة، دخول تقنيات متقدمة خلال أقل من 8 سنوات مثل تقنية «بلاتوننغ» (Platooning) أو تسيير القوافل الذكية. يقول المانع: «يمكن لهذه التقنية أن تُحدث نقلة نوعية في النقل المبرد بين المستودعات أو المستشفيات؛ إذ تضمن سرعة الاستجابة وتقليل المخاطر البشرية وخفض التكاليف التشغيلية».

التكيف مع الأزمات

جائحة كورونا كشفت عن هشاشة بعض سلاسل الإمداد حول العالم، لكنها في دول الخليج دفعت نحو إنشاء بنى استجابة أكثر مرونة. يشدد المانع على أهمية «بناء منظومة متكاملة قائمة على مبدأ استمرارية العمل، تشمل مسارات بديلة وفرق طوارئ وبنية تحتية رقمية متقدمة توفّر رؤية لحظية للمخزون والإمدادات».

كما يدعو إلى توطين الصناعات الطبية الحيوية وتعزيز التعاون الإقليمي، لتقليل الاعتماد على الخارج، خصوصاً في الأدوية عالية الطلب وأجهزة التنفس الاصطناعي.

البنية التحتية الذكية وسلاسل التبريد

في بيئة مناخية حارة كدول الخليج، تعدّ سلاسل التبريد والتخزين الدقيق عاملاً لا يمكن الاستغناء عنه. ويقول المانع إن درجة واحدة زائدة أو ناقصة قد تؤثر في فاعلية منتج طبي حساس مثل اللقاحات أو العلاجات البيولوجية. ويصرح: «لهذا أصبحت أنظمة التحكم البيئي والتتبع اللحظي في النقل والتخزين أولوية تشغيلية قصوى».

ويذكر المانع كذلك أن شركة «الجهات الأربع» افتتحت مؤخراً مركزاً متخصصاً لتهيئة عبوات العينات الطبية، يتيح تجهيز عبوات بأحجام متنوعة قادرة على حفظ العينات ضمن نطاقات حرارية تتراوح بين 18 درجة تحت الصفر و25 درجة مئوية، ولمدد تصل إلى عدة أيام دون كهرباء.

الجودة تبدأ من الامتثال والتدريب

يؤكد المانع أن الجودة في النقل الطبي لا تبدأ من الأجهزة بل من البشر، ما يبرز التدريب. ويشرح أنه في قطاع لا يسمح بأي هامش خطأ، تبرز البرامج التدريبية المتخصصة في بروتوكولات التبريد والمناولة والتوثيق، بالإضافة إلى اختبارات الامتثال الدورية. كما يثني المانع على دور الأكاديمية السعودية اللوجيستية، التي ساهمت في رفد شركته بكفاءات سعودية مؤهلة أثبتت جدارتها. من ناحية أخرى، يشير إلى أن الترخيص الوطني للمرافق، والعضويات المهنية الدولية، يعززان توحيد الممارسات عبر الحدود ويرفعان جودة الامتثال والتوثيق.

تقليل الهدر لتحقيق الكفاءة

ترتبط كفاءة الخدمات اللوجيستية بشكل مباشر بمفاهيم الاستدامة. وحول ذلك يقول المانع إن «التحكم الدقيق في الحرارة والرطوبة والتتبع اللحظي يقلل من تلف المنتجات الحساسة، ويخفض الانبعاثات الناتجة عن الشحنات المرتجعة أو التالفة». ويزيد أن المرونة التخزينية والاعتماد على أنظمة ذكية لإدارة المخزون، ترفع الاستفادة من الموارد وتقلل الطاقة والمساحات غير المستغلة.

ووفقاً للمانع فإن أحد أهم مفاتيح النجاح في تطوير سلاسل الإمداد الصحية هو بناء شراكات فاعلة بين القطاعين العام والخاص. ويفيد بأن «الشراكات الفعالة توحّد أهداف السياسات الصحية مع قدرات القطاع الخاص، فتسرّع توفير بنى تحتية مرخّصة وتقنيات تتبع وتبريد حديثة». كما ينوه بأهمية «نقل المعرفة عبر الشبكات المهنية والتحالفات الدولية، لتوحيد المعايير ورفع كفاءة التكامل في المنطقة».

خطوات مستقبلية

في ختام حديثه مع «الشرق الأوسط»، يوضح المانع أن استراتيجية «الجهات الأربع» تتمحور حول التخصص والابتكار، كاشفاً أن الشركة تعمل على بناء أكثر من 6 مستودعات متخصصة، تشمل مرافق للأدوية والآثار والمواد الخطرة. كما تخطط لتكون أول شركة في المنطقة متخصصة في سلاسل إمداد الأدوية الجينيّة.

ويؤكد على أن المستقبل سيتطلب قدرة أكبر على التكيّف والابتكار، قائلاً: «الثورة المقبلة في العلاجات الجينية ستعيد تشكيل احتياجات سلاسل الإمداد، ومن لا يستعد لها اليوم، سيتأخر كثيراً في المستقبل».

يقرأون الآن