كيف أصبح المغرب قوة تجارية وتصنيعية؟

إن النمو الاقتصادي في المغرب ليس مجرد قصة أرقام، بل هو انعكاس لاستراتيجية طموحة أعادت تشكيل مكانة البلاد على الساحة الدولية. فمنذ عقود، كان المغرب يُنظر إليه في الغالب كبوابة جغرافية بين أوروبا وأفريقيا، إلا أنه اليوم تحول إلى مركز حيوي للتصنيع والتجارة، مدفوعاً باستثمارات كبيرة في البنية التحتية واتفاقيات تجارية واسعة النطاق.

وقد أثمرت هذه الجهود عن إنجازات لافتة، أبرزها صعوده ليصبح أكبر مصدر للسيارات إلى أوروبا، متجاوزاً قوى صناعية عريقة. لكن هذا النجاح لا يخلو من التحديات. فمع تزايد السياسات الحمائية من الشركاء التقليديين في أوروبا، وبروز المنافسة القوية من القوى الاقتصادية الكبرى، يجد المغرب نفسه أمام ضرورة مراجعة استراتيجيته.

فهل يوجه المغرب بوصلته نحو إفريقيا لتفادي تحديات المنافسة الأوروبية؟ وكيف تمكنت المملكة من التحول من مجرد بوابة عبور إلى لاعب أساسي في سلاسل الإمداد العالمية؟

وبحسب تقرير نشرته "ذي إيكونوميست" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، جذبت المملكة المغربية نحو 40 مليار دولار من استثمارات التصنيع الجديدة منذ عام 2020، مما وضعها ضمن قائمة أكبر الدول المستقبلة للاستثمار في العالم. ونتيجة لذلك ارتفعت صادرات المغرب بمقدار الثلثين خلال السنوات الخمس الماضية.

وأوضح التقرير أن "السفن المغادرة ميناء طنجة، تحمل السيارات والبضائع إلى 180 وجهة حول العالم. وتتحرك الشاحنات بسرعة داخل الميناء على طرق تلمع تحت أشعة الشمس. ومن المقرر أن يتوسع الميناء ليصبح أكبر، مما يؤكد طموحات البلاد في أن تكون مركزاً رئيسياً للتصنيع والتجارة".

سياسات استباقية تخلق بيئة جاذبة للمستثمرين

ويعزو المسؤولون المغاربة هذا النجاح إلى السياسات الاستباقية للملك محمد السادس، التي تمحورت حول خلق بيئة جاذبة للمستثمرين الأجانب. فقد ضخت الحكومة أموالاً طائلة في تطوير البنية التحتية، من موانئ وسكك حديدية وطرق، إلى مرافق متقدمة لتوليد الكهرباء والطاقة المتجددة. وقد أثمر هذا الإنفاق عن نتائج ملموسة، أبرزها وجود قطار فائق السرعة ومناطق اقتصادية خاصة باتت تستقبل عمالقة الصناعة العالمية، حيث وصل الإنفاق على البنية التحتية إلى ما بين 25 بالمئة و38 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً في الفترة من 2001 إلى 2017، وهي من أعلى النسب في العالم.

نجاح صناعة السيارات

وأكد التقرير أن صناعة السيارات تعد نموذجاً بارزاً للنجاح المغربي، وأشار إلى أن أكبر جاذب للشركات الأوروبية كان اتفاقية التجارة الحرة التي وقعها المغرب مع الاتحاد الأوروبي في عام 2000، والتي تبعتها اتفاقيات تفضيلية مع 60 دولة أخرى. وقد أدى ذلك إلى جذب استثمارات ضخمة من شركات صناعة السيارات مثل رينو وستيلانتس، إضافة إلى الموردين مثل يازاكي.

وبلغ إجمالي الاستثمارات في هذا القطاع أكثر من 8 مليارات دولار منذ عام 2012. هذا التطور قفز بالمغرب ليصبح، في العام الماضي، أكبر مصدّر للسيارات وقطع الغيار إلى أوروبا، متجاوزاً بذلك عمالقة مثل الصين واليابان، بحسب التقرير.

ومع ذلك، فإن هذا النجاح لا يخلو من التحديات. فالتشابك مع الاستثمارات الصينية قد يضع المغرب في مرمى الصراعات التجارية الدولية، كما حدث عندما فرض الاتحاد الأوروبي رسومًا لمكافحة الإغراق على عجلات سيارات مصنوعة في مصانع صينية بالمغرب، مما دفع إحدى الشركات إلى نقل خطط التوسع إلى البرتغال. هذا التحدي يُضاف إلى مخاوف أخرى تتعلق بتركيز الاستراتيجية على الشركات الأجنبية وإهمال تطوير الشركات المحلية، حيث لا توجد سوى شركة مغربية واحدة في منطقة القنيطرة الصناعية.

التوجه الاستراتيجي لإفريقيا

في مواجهة هذه التحديات، يبدو أن المغرب يعيد تقييم استراتيجيته. فبدلاً من الاعتماد المفرط على أوروبا، تتجه أنظاره نحو القارة الأفريقية. ويُعد مشروع خط أنابيب الغاز الضخم إلى نيجيريا دليلاً على هذا التوجه، حيث يهدف إلى تعزيز الروابط الاقتصادية مع 11 دولة أفريقية.

كما أن مركز الدار البيضاء المالية يُروج لنفسه كبوابة للأعمال في إفريقيا، مستقطباً شركات عالمية من كوريا الجنوبية وفرنسا. وهذا التنويع، كما يؤكد وزير التجارة والصناعة، هو السبيل لمواجهة التحديات القادمة والحفاظ على القدرة التنافسية للاقتصاد المغربي.

في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي: "أظهر المغرب مرونة اقتصادية ملحوظة في السنوات الأخيرة، بفضل سياسات اقتصادية كلية فعّالة واستجابات حكومية استباقية للتحديات العالمية. ومع اقترابنا من عام 2025، تواصل الدولة تحقيق تقدم ملحوظ في التنمية المستدامة، لا سيما في تحويل سلاسل الامداد لتحقيق الأهداف البيئية. ومع ثبات معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وارتفاع الاستثمارات بنسبة 9.1 بالمئة يُرسّخ المغرب مكانته كقائد إقليمي في مجال ابتكار سلاسل الإمداد خاصة الخضراء. ويجري هذا التحول على جبهات متعددة، من وضع السياسات إلى التكامل التكنولوجي، مما يُفضي إلى بيئة اقتصادية أكثر استدامة".

وأشار إلى أـن المغرب يتسارع نحو مستقبل مستدام في التصنيع والتكنولوجيا والتنقل، حيث يمضي بخطى سريعة نحو ترسيخ مكانته كمركز ديناميكي للابتكار والاستثمار في قطاعات التصنيع والتكنولوجيا والتنقل. وتؤكد التطورات الأخيرة على رؤية استراتيجية واضحة تُركز على التقدم التكنولوجي، واستقطاب الشركات العالمية، وتبني ممارسات مستدامة. ومن مشروعات الذكاء الاصطناعي الرائدة، إلى الاستثمارات الكبيرة في إنتاج المركبات الكهربائية، والخطط الطموحة للحد من انبعاثات الكربون في قطاع النقل، تُعلن المملكة عن عزمها على أن تكون رائدة إقليمياً في السنوات القادمة.

الاتجاهات الرئيسية لسلاسل الامداد

وأوضح الدكتور الشناوي أن الاتجاهات الرئيسية لسلاسل الامداد الناشئة في المغرب تتضمن ما يلي:

سياسات أقوى لتعزيز استدامة سلسلة التوريد: حيث تُطبّق الحكومة المغربية سياساتٍ فعّالة لتعزيز استدامة سلاسل الامداد.

تنمية سوق مدفوع بالذكاء الاصطناعي

التخفيف من تحديات التحول الرقمي السريع حيث يواجه تحديات مثل الهجمات الإلكترونية.

نمو المشتريات المستدامة عبر الصناعات، حيث تكتسب ممارسات الشراء المستدامة زخماً متزايداً في مختلف القطاعات بالمغرب. وتؤكد الأبحاث أن ممارسات سلاسل الامداد المستدامة تُحسّن الأداء اللوجستي للشركات بشكل ملحوظ.

التحول نحو أنظمة النقل والتنقل المستقبلية الصديقة للبيئة حيث يُمثل قطاع النقل في المغرب حالياً 31 بالمئة من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مع اعتماد بنسبة 99 بالمئة على الوقود الأحفوري.

تحديث البنية التحتية اللوجستية

وأكد الخبير الاقتصادي الشناوي أنه مع تحول ديناميكيات التجارة العالمية، يبرز المغرب كلاعب رئيسي في قطاع الخدمات اللوجستية، مدفوعاً بالابتكار والاستثمارات الاستراتيجية.

وأضاف: "ويوفر التزام البلاد بتحديث بنيتها التحتية اللوجستية فرصاً واعدة للشركات حول العالم. وبالنسبة لشركات الخدمات اللوجستية يُعدّ مواكبة هذه الاتجاهات أمراً بالغ الأهمية للاستفادة من الفرص الجديدة وتحسين العمليات العالمية.

ورداً على سؤال فيما إذا كان المغرب يعيد بوصلته نحو إفريقيا لتفادي تحديات المنافسة الأوروبية يرى الدكتور الشناوي أن المغرب يهدف إلى التعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي، من خلال توسيع البنية التحتية، وروابط الطاقة، والتعاون الاقتصادي مع إسبانيا وفرنسا والبرتغال.

وأضاف: " يهدف التعاون والتكامل المحتمل مع الاتحاد الأوروبي إلى مساعدة المغرب على تحقيق أهدافه السياسية، ومن المتوقع أن تلعب الاستضافة المشتركة لكأس العالم لكرة القدم 2030 دوراً رئيسياً في هذا الصدد. كما إن بناء نفق يربط إسبانيا بالمغرب قد يزيد بشكل كبير من تدفق البضائع والأشخاص بين أوروبا وإفريقيا".

وفي عصرٍ تُعرف فيه اضطرابات سلاسل التوريد العالمية، تتجه الشركات الأوروبية نحو المرونة وسرعة الحركة. حيث تُعيد أكثر من 64 بالمئة من الشركات الأوروبية تقييم استراتيجياتها المتعلقة بسلاسل التوريد في ظلّ حالة عدم الاستقرار. وفي سعيها إلى إيجاد بدائل لتخفيف المخاطر وتعزيز المرونة، تبرز المغرب كحلٍّ مُقنع، بموقعها الاستراتيجي على مفترق طرق القارات، بحسب تعبيره.

شريك تجاري واستثماري رئيسي للاتحاد الأوروبي في شمال إفريقيا

وأضاف: "كما يعزز المغرب مكانته كشريك تجاري واستثماري رئيسي للاتحاد الأوروبي في شمال إفريقيا. ويُعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الرئيسي للمملكة، حيث يمثل أكثر من نصف تجارتها، وأكبر مستثمر أجنبي فيها. في عام 2024، بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي 35.3 مليار يورو (بزيادة 6.5 بالمئة على أساس سنوي)، ووارداته 25.3 مليار يورو (بزيادة 7.5 بالمئة على أساس سنوي). وتُنتج معظم ماركات السيارات الفرنسية في المنطقة الاقتصادية بطنجة".

ويرى الشناوي إمكانية صعود المغرب كبوابة أوروبا إلى إفريقيا والتعامل مع ديناميكيات سلاسل الامداد وذلك للأسباب التالية:

الموقع الاستراتيجي والاستثمارات في البنية التحتية.

تنويع استراتيجيات التوريد.

بناء تحالفات قوية للخدمات اللوجستية.

إطلاق العنان لإمكانات النمو.

توسيع المغرب للبنية التحتية لقطاع الطاقة.

الموقع الاستراتيجي يتصدر عوامل النجاح الاقتصادي

من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي هاشم عقل، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن الموقع الاستراتيجي للمغرب يأتي في صدارة عوامل النجاح الاقتصادي، حيث يشكل جسراً بين أوروبا وإفريقيا، مما عزز دوره كمحور لوجستي عالمي، إلى جانب الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، مثل ميناء طنجة المتوسطي الذي يُعد الأكبر في المتوسط، وتوسيع شبكة الطرق السريعة، واتفاقيات التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فضلاً عن القوى العاملة الماهرة وانخفاض التكاليف.

وأضاف: "كما ساهمت الابتكارات التكنولوجية، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة السلاسل اللوجستية، في تعزيز الاستدامة والكفاءة. وفي القطاع الصناعي، برز المغرب كأكبر منتج ومصدر للسيارات في القارة، مع استثمارات من شركات عالمية مثل رينو وبيجو، إلى جانب دخوله الواعد في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية بفضل احتياطياته من الكوبالت والفوسفات".

وأشار عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية عقل إلى أن عودة المغرب لتوجيه بوصلته نحو إفريقيا، تعكس رغبته في تنويع شراكاته الاقتصادية واستغلال فرص النمو في القارة. وقال: "في عام 2025، يظهر المغرب التزاماً متزايداً بتعزيز حضوره في إفريقيا، خاصة في دول غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية وإفريقيا الناطقة بالإنجليزية. وإن مبادرات مثل مركز التميز لعمليات السلام مع الولايات المتحدة، واستضافة أحداث رياضية كبرى مثل كأس أمم إفريقيا 2025 وكأس العالم للسيدات تحت 17 عاماً، تعكس هذا التوجه، كما تساهم استعدادات المغرب لاستضافة كأس العالم 2030 في تعزيز تأثيره الإقليمي.

ومع ذلك، يحافظ المغرب على علاقاته القوية مع أوروبا، حيث يُنظر إليه كجزء من حلول مستقبل القارة العجوز عبر إفريقيا، بحسب عقل، الذي لفت إلى أن المغرب يواجه تحديات مثل دمج الشركات المحلية الصغيرة في السلاسل العالمية وزيادة الصادرات الأفريقية التي لا تزال محدودة.

وختم بقوله: "ولكن مع رؤيته الطموحة ومبادراته الاستراتيجية، يواصل المغرب تعزيز دوره كمركز اقتصادي يربط بين القارات، مانحاً إفريقيا أولوية دون التخلي عن شراكاته الأوروبية".

يقرأون الآن