إقتصاد

الذهب أم البتكوين: بين الملاذ الآمن والمخاطرة العالية

الذهب أم البتكوين: بين الملاذ الآمن والمخاطرة العالية

في عالم يزداد اضطراباً بفعل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، يبحث المستثمرون عن أدوات تحمي ثرواتهم وتضمن لهم قدراً من الاستقرار. تاريخياً، كان الذهب يتربع على عرش الملاذات الآمنة، يزداد بريقه كلما تعمقت الأزمات.

لكن في السنوات الأخيرة، برز منافس جديد: البتكوين والعملات الرقمية. هذا الأصل المالي المثير للجدل جذب أنظار المستثمرين الأفراد والمؤسسات على حد سواء، لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات حول مدى أهليته للعب دور الملاذ الآمن.

الأرقام تعكس المفارقة: أسعار الذهب ارتفعت هذا العام بنسبة 43 بالمئة لتصل الأونصة إلى 3800 دولار، في حين حققت البتكوين قفزات تاريخية بلغت 124 ألف دولار قبل أن تتراجع وتخسر أكثر من 250 مليار دولار من قيمتها السوقية في غضون شهر ونصف. هذه التحركات المتناقضة تفتح باب النقاش حول: هل يمكن اعتبار البتكوين ملاذاً آمناً فعلاً؟ أم أنه يظل أداة مضاربة عالية المخاطر؟

الذهب: الحصن التقليدي وسط العواصف

الذهب لم يخذل سمعته يوماً. كلما تزايدت الضبابية العالمية، ارتفع سعره. السبب واضح: الثقة المتراكمة عبر قرون جعلت المعدن النفيس مرادفاً للأمان. المستثمرون، الحكومات، وحتى البنوك المركزية يلجأون إليه لتأمين احتياطياتهم. وما يشهده العالم اليوم من حروب وصراعات تجارية وركود اقتصادي عالمي، منح الذهب دفعة إضافية جعلته يتربع مجدداً على قمة المشهد.

لكن وراء هذه الأرقام أيضاً دلالات أعمق. صعود الذهب بهذه الوتيرة يؤشر إلى حجم القلق في الأسواق. فالمستثمرون لا يهربون نحو الذهب إلا حين تتراجع ثقتهم ببقية الأدوات، سواء العملات الرئيسية أو الأسهم أو السندات.

البتكوين: أصل مالي بين الوعد والخيبة

منذ ظهوره قبل نحو 15 عاماً، حمل البتكوين وعوداً كبيرة: حرية مالية، استقلال عن النظام المصرفي التقليدي، وإمكانية تحقيق أرباح ضخمة. وقد اجتذب هذه الوعود أعداداً متزايدة من الأفراد، لا سيما من الأجيال الجديدة الباحثة عن بدائل خارج المنظومة المالية التقليدية.

لكن هذه الوعود اصطدمت بالواقع. كما أوضح استراتيجي الأسواق المالية في First Financial Market، جاد حريري خلال حديثه الى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية ، فإن البتكوين لم يثبت بعد أهليته كملاذ آمن. في أوقات التوتر، بدلاً من أن يرتفع كما يفعل الذهب أو الدولار، غالباً ما يتراجع أو يستقر. هذا السلوك يضعه في خانة "الأصول عالية المخاطرة"، لا الأصول التحوطية.

حريري شدد على أن البتكوين يمكن أن يمنح عوائد مرتفعة على المدى الطويل، لكنه في الوقت نفسه عُرضة لتقلبات عنيفة. فقد ارتفع في 2022 إلى 70 ألف دولار، قبل أن يتهاوى إلى 16 ألفاً، ثم يعاود الصعود إلى مستويات 124 ألف دولار مؤخراً. مثل هذه الحركة ليست استثناءً بل قاعدة في عالم العملات الرقمية.

بين المؤسسات والأفراد: دخول اللاعبين الكبار

رغم ذلك، لا يمكن تجاهل أن البتكوين أصبح جزءاً من النظام المالي العالمي. البنوك، الحكومات، والصناديق الاستثمارية الكبرى باتت تخصص جزءاً من محافظها للعملات الرقمية. هذا الحضور المؤسسي يمنح البتكوين قدراً من الشرعية، ويجعله محركاً رئيسياً للأسواق.

جاد حريري لفت الانتباه إلى أن البنوك المركزية نفسها صارت تنظر إلى البتكوين كأصل لا يمكن تجاهله، ولو بنسبة صغيرة (1 بالمئة إلى 5 بالمئة من المحافظ الاستثمارية). هذا يعكس إدراكاً متنامياً بأن الاقتصاد العالمي يتجه تدريجياً نحو إدماج العملات الرقمية، سواء عبر التشريعات القانونية أو عبر أنظمة الدفع الجديدة التي باتت تعتمد على هذه الأدوات.

مخاطر عالية… وفرص مغرية

لكن هذه الشرعية لا تعني بالضرورة الأمان. طبيعة البتكوين ما تزال محفوفة بالمخاطر. المستثمرون الأفراد كثيراً ما ينجذبون عند القمم السعرية، ليجدوا أنفسهم لاحقاً في مواجهة خسائر فادحة، فيما تستغل "الحيتان" الكبرى التراجعات لإعادة التموضع وشراء المزيد بأسعار منخفضة.

حريري أوضح أن هذا السلوك ليس جديداً. في 2022 مثلاً، أدت انهيارات منصات كبرى مثل FTX وتيرا لونا إلى اهتزاز الثقة بالعملات الرقمية. لكن سرعان ما دخلت مؤسسات مالية ضخمة على الخط، واستعادت السوق جزءاً كبيراً من عافيتها. وكأن السوق الرقمية تعيش على وقع دوامة متكررة: صعود، انهيار، ثم إعادة تمركز.

البتكوين والاقتصاد الكلي

ارتباط العملات الرقمية بالسياسات النقدية العالمية بات أوضح من أي وقت مضى. مع خفض أسعار الفائدة، تتدفق السيولة نحو الأصول عالية المخاطر مثل الأسهم والعملات الرقمية. ومع رفع الفائدة، تنكمش هذه السيولة ويظهر أثره سريعاً على البتكوين. هذا ما يفسر جزءاً من التراجعات الأخيرة رغم التوقعات بارتفاعات مستقبلية قد تصل إلى 200 ألف دولار للبتكوين وفق بعض التقديرات.

لكن، كما يشير حريري، الأسواق غالباً ما تسعّر الأحداث قبل وقوعها. فالتراجعات الحالية قد لا تكون سوى إعادة تمركز استعداداً لموجة صعود جديدة. وهنا تظهر المفارقة: التراجع في نظر البعض خسارة، لكنه بالنسبة لآخرين فرصة ذهبية.

بين الذهب والبتكوين: معركة الرمزية

المقارنة بين الذهب والبتكوين ليست مالية فقط، بل رمزية أيضاً. الذهب يمثل الاستقرار المتوارث عبر القرون، بينما البتكوين يمثل الثورة على النظام المالي التقليدي. في لحظة تاريخية يعيش فيها العالم أزمة ثقة عميقة، يتوزع المستثمرون بين من يفضل العودة إلى الأمان القديم، ومن يغامر بركوب موجة النظام الجديد.

يذهب حريري أبعد من ذلك بالقول إن الفوضى قد تخلق نظاماً جديداً. فبعد العقوبات الغربية على روسيا وما رافقها من قيود على نظام سويفت، بدا واضحاً أن العالم يبحث عن بدائل. البتكوين والعملات الرقمية توفر مثل هذا البديل: تحويلات أسرع، تكاليف أقل، وغياب الطرف الثالث المتحكم.

هل يمكن للبتكوين أن يصبح ذهب المستقبل؟

السؤال الجوهري يظل معلقاً: هل البتكوين في طريقه ليصبح الذهب الجديد؟

الجواب، كما يعكسه تحليل حريري، ليس بسيطاً. على المدى القصير، يظل الذهب الخيار الأضمن للمستثمرين الباحثين عن الأمان. أما البتكوين، فهو أصل مالي واعد، لكنه لا يخلو من الفوضى والتقلب. قد لا يكون ملاذاً آمناً بالمعنى التقليدي، لكنه أصبح لاعباً أساسياً لا يمكن تجاهله في المعادلة الاقتصادية العالمية.

في نهاية المطاف، يبدو أن المشهد ليس اختياراً بين الذهب أو البتكوين، بل توزيع ذكي بينهما. الذهب سيظل الحصن التقليدي في وجه العواصف، بينما البتكوين يمثل المستقبل بكل ما يحمله من مخاطرة وإمكانات. ربما يكمن الحل في التوازن: جزء صغير من المحافظ الاستثمارية مخصص للعملات الرقمية، مع الاحتفاظ بالذهب كركيزة أمان.

التاريخ قد يجيب لاحقاً عمّا إذا كان البتكوين سيصل فعلاً إلى مستويات 200 ألف دولار ويثبت نفسه كذهب المستقبل، أم أنه سيبقى أسيراً لتقلباته. لكن المؤكد أن النظام المالي العالمي يدخل مرحلة جديدة، حيث يتعايش الذهب والبتكوين جنباً إلى جنب، كلٌّ بلونه ورمزيته: الأول يعكس الأمان، والثاني يعكس الثورة.

يقرأون الآن