يقف البحار الصادق الغول على حافة أحد الشواطئ في قرية غنوش الواقعة بخليج قابس جنوب شرق البلاد التونسية. يتشبث رفقة ابنه وقلة من البحارة بمهنة الصيد، رغم تضرر الناس والبحر والثروة السمكية، جراء تسرب المواد الكيميائية من المجمع الكيميائي بالمنطقة.
ويشير الغول إلى البحر، حيث تظهر المواد السامة على شكل أمواج بيضاء، من مخلفات مادة الجبس الفوسفوري، أو "الفوسفوجيبس"، التي تلقى في البحر، مؤكدا حجم التلوث والضرر الذي لحق الأهالي جراء إلقاء النفايات السامة في البحر، ويقول: "هنا لا حياة مع التلوث وانتشار الأمراض والاختناق بالهواء السام".
وأضاف أن المجمع يلقي أيضا "الأسيد" و" الأمونيا" التي تفرزها وحدات إنتاجه، من دون تصرف فيها، وهي مواد حارقة تتسبب في تهيج الأعين، وأمراض عديدة وحساسية مفرطة، كما أنها تقتل كل نبات وحيوان وتتسبب في أمراض خطيرة ظهرت حالات عديدة منها في أجساد سكان المنطقة، حسب قوله.
من جهته، يقول يسري عمارة، وهو شاب في أواخر العشرينيات للجزيرة نت، إن متساكني محافظة قابس يعانون من أمراض جلدية وتنفسية، وتتكرر عمليات الاختناق لدى الكثيرين منهم.
ويضيف أن "مسؤولي المجمع الكيميائي بالمنطقة يستغلون عدم جدية الرقابة ويبثون سموم المجمع على الشاطئ وداخل البحر غير عابئين بما سيتسبب ذلك من ضرر للأهالي وللبحارة".
نقمة الفوسفات
تقع محافظة قابس في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية (نحو 415 كيلومترا) عن العاصمة، ويتذمر سكانها إلى حد الاحتجاج المتكرر من المجمع الكيميائي الواقع في منطقة غنوش، الذي أقيم بمدينة قابس منذ عام 1972. ويطالبون بإغلاقه ووقف التلوث الذي يسببه، لكن السلطات التي وعدت بوقف المصنع منذ عام 2017، لم تف بوعدها بعد.
وعلى مدى عقود، بقي مجمع غنوش ينفث النفايات والأبخرة السامة للفوسفات ومخلفاته في الهواء ويصبها في البحر، بينما تتزايد الإصابات بالأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية، والتشوهات الخلقية، ومشاكل الكلى والكبد، كما تفيد دراسات وتقارير حول التأثيرات الصحية الخطيرة للمجمع، في حين تغيب البيانات الرسمية المتعلقة بذلك.
وفي هذا المجمع الصناعي الضخم بمنطقة غنوش، تتم معالجة الفوسفات، الذي يأتي من مناجم محافظة قفصة المجاورة، لتصنيع الأسمدة وغيرها من المواد الكيميائية، وتؤكد أبحاث وتقارير بيئية أن مخلفاتها تتضمن ملوثات، كيميائية وإشعاعية أيضا.
وأشارت دراسات إلى وجود معادن ثقيلة، مثل اليورانيوم، والثوريوم، والراديوم بجرعات عالية في الجبس الفوسفوري، وهو منتج ثانوي كيميائي مشع لإنتاج حمض الفوسفوريك ينتج عن معالجة وتحويل الفوسفات. وتتسرب مثل هذه العناصر الثانوية في مياه الصرف الصحي والبحر، والهواء على شكل أبخرة سامة، مثل ثاني أكسيد الكبريت.
وتشير التقديرات، إلى أن المجمع الكيميائي ينتج 6 آلاف طن من مخلفات الجبس الفوسفوري يوميا، يتم صرف جزء منها في البحر دون معالجة أولية خصوصا في شاطئ قرية شط السلام الذي لا يبعد كثيرا، وهو ما يؤدي إلى تلوث بحري، وتدهور الثروة السمكية في خليج قابس، وفق ما يؤكد البحار الصادق الغول، والأهالي، وتقارير كثيرة محلية ودولية.
تلوث مزمن
على بعد كيلومترات عن قرية غنوش تقع قرية شط السلام المتاخمة للمجمع الكيميائي بالمحافظة، وهناك التقت الجزيرة نت عائلة الحمروني التي تضرر أكثر من فرد فيها، إثر استنشاقهم لغازات وأبخرة سامة، منبعثة من أحد مصانع المجمع الكيميائي.
وتقول هدى الحمروني، والدة إحدى ضحايا حادث الاختناق الأخير بالمنطقة إنها اضطرت وزوجها لإسعاف ابنتها والتوجه بها للمستشفى المحلي بعد تأخر سيارة الإسعاف الوحيدة، بينما قارب عدد الذين تعرضو لحالات الاختناق في الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول الماضي نحو 50 حالة.
وأوضحت الحمروني أن ابنتها تعاني صعوبة في التنفس وارتخاء في القدمين منذ وقوع حادثة الاختناق بالغازات السامة المنبعثة من وحدات إنتاج الفوسفات بالمجمع الكيميائي.
وطالبت العائلة بوضع حد للتلوث البيئي الذي يتعرضون له منذ سنوات، حتى لا يضطروا لمغادرة منازلهم على غرار عائلات كثيرة بالمنطقة، كما انتقدوا النقص المسجل في معدات الحماية والأكسجين لمعالجة حالات الاختناق.
وتشهد كل من قريتي غنوش وشط السلام حالات اختناق متكررة بسبب التلوث الناجم عن انبعاثات المجمع الكيميائي وتسرباته، إذ تجاوز عدد المصابين الذين نقلوا للمستشفيات بالجهة نحو 100 حالة خلال شهر سبتمبر/أيلول المنقضي.
ويؤكد نائب المجلس المحلي بالجهة والناشط البيئي أحمد قفراش للجزيرة أنه كان شاهدا على أعراض خطيرة لم يرها من قبل، جراء التلوث بمخلفات المجمع ونفاياته، وأوضح أن تسرب الغازات من وحدات الإنتاج بالمجمع هذه المرة تجاوز كل الحدود.
ويشير قفراش إلى أن صلوحية الوحدات الصناعية في المجمع الكيميائي انتهت عمليا، وطالب بإيقاف دورة الإنتاج فيها فورا تجنبا لمزيد من الكوارث، كما انتقد افتقار المحافظة لمستشفى جهوي يليق بالمنطقة، ويخفف من عبء التنقل للعلاج خارج المحافظة في ضوء زيادة معدلات الأمراض.
واعتبر قفراش أيضا أن تركيز المجمع الكيميائي بالجهة كان "خطأ إستراتيجيا" ارتكبته الدولة التونسية، مؤكدا الضرر الكبير لمحافظة قابس من النفايات الكيميائية التي يلقيها.
لجنة تدقيق و"تمويه"
وعلى وقع الاحتجاجات المتكررة، جراء حوادث الاختناق المتعددة، وتراكم مشاكل التلوث البيئي أجرت لجنة من مسؤولين من وزارة الصحة ووزارة الصناعة ووزارة البيئة؛ زيارة للمجمع الكيميائي في الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول؛ لامتصاص غضب السكان بالمحافظة، في حين ينتظر الأهالي النتائج والمقررات الفعلية للزيارة.
ويقول ناشطون بيئيون وحقوقيون إن مسؤولي الإنتاج بالمجمع أوقفو خلال الزيارة التفقدية إنتاج الوحدات السامة وقتيا في حين ركزت وزارة الصحة معدات طبية عاجلة لتخفيف وطأة الأزمة خاصة بعد زيادة وتيرة عمليات الاختناق.
وفي حين يواصل المشرفون على المجمع الصمت، ويختارون عدم التصريح لوسائل الإعلام المحلية والدولية تحدث رئيس الدولة قيس سعيد خلال اجتماع بالقصر الرئاسي عما سماه "اغتيال البيئة"، مشيرا إلى أنه تم القضاء على كل مظاهر الحياة لمدينة قابس، لكن من دون أن ينتج عن ذلك تحرك جدي، لإيقاف مأساة التلوث كما يقول ناشطون.
ويجسد المجمع الكيميائي بمدينة قابس تلك المعضلة أو الرهانات "الموجعة" التي اعتمدتها الدولة منذ السبعينيات في تحقيق العوائد الاقتصادية واستثمار الثروات وإغفال الأضرارعلى صحة الإنسان والبيئة.
فالمجمع، الذي يوفر نحو 4 آلاف فرصة يشكل عصبا اقتصاديا تغاضت كل الحكومات المتعاقبة عن مخاطره، في حين سئم أهالي المنطقة الوعود، واضطر العديد منهم للمغادرة بحثا عن هواء نظيف وحياة أفضل لأبنائهم، وتنتظر الغالبية منهم حلا لم يأت بعد.