خاص وردنا- أكثر من 600 لبناني مفقود: البحث عن إجابات في تراب سوريا

في ظل تحول الأضواء السياسية نحو مئات السجناء السوريين في سجون لبنان، استعداداً لاتفاقية ترحيل قد تغيّر المشهد القضائي بين البلدين، يظل جانب آخر من المأساة ملقىً في الظل، تلتهمه حقائق أقسى: ملف المئات من اللبنانيين الذين اختفوا في سوريا. بينما يتجه وفد قضائي لبناني رفيع إلى دمشق لمعالجة ملف السوريين في لبنان، يبدو مصير عشرات العائلات اللبنانية التي تنتظر خبراً عن أبنائها المفقودين في أراضي الجارة الشرقية، وكأنه حبيس تاريخ من الصمت.

هذه العائلات لا تنتظر إطلاق سراح معتقلين أحياء، بل تبحث عن عظام في تراب المقابر الجماعية، أو تتعثر في متاهات أرشيف نظام بشار الأسد السابق، عساها تعثر على أثر. فهناك "أكثر من 600 لبناني" من ضحايا الاختفاء القسري في زمن نظامي الأسد الأب والابن، وفقاً للمحامي نبيل الحلبي، الرئيس التنفيذي لمنتدى الشرق الأوسط للسياسات. هذه الأرقام ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليد، مرجعيته تاريخ طويل من العلاقات المضطربة بين البلدين.

ويتلخص السيناريو الأكثر قسوة، كما يوضح الحلبي في حديث لموقع "وردنا"، في أن "مصير اللبنانيين المعتقلين في سوريا زمن نظام الأسد الأب والابن لا زال مجهولاً". والأمر لا يقتصر على مجرد جهل بمكانهم، بل "بعد تبييض كافة المعتقلات عقب سقوط نظام الأسد وعدم العثور عليهم، الأمر الذي يرجح وفاتهم في أوقات سابقة، كحال أكثر من 200 ألف سوري وسورية جرى تغييبهم في زنازين الموت الأسدية".

في مواجهة هذا المجهول المروع، تقوم آليات بحث بطيئة وحزينة. فبحسب تصريح الحلبي، "هناك تعاون سوري لبناني حول الكشف عن مصير أكثر من 600 لبناني من ضحايا الاختفاء القسري". وتقوم الهيئة الوطنية الخاصة بضحايا الاختفاء القسري في لبنان برفع قوائم بأسماء الضحايا وعينات من الحمض النووي لأهاليهم إلى السلطات السورية، للمقارنة مع الرفات التي يتم العثور عليها.

لكن عمليات الكشف عن المقابر الجماعية التي "تجري في مختلف المحافظات السورية"، كما يقول الحلبي، "معظمها يعود إلى فترة الثورة السورية، ولم يتم العثور حتى الساعة على رفات الضحايا اللبنانيين أو أثر لهم". ويبقى الأمل الوحيد معلقاً على استمرار عمليات الاكتشاف، لأن المقابر التي قد تحوي ضحايا من فترات سابقة لم تكتشف بعد. إنها عملية انتظار ممضة، على أمل أن تكشف جرافة، في يوم من الأيام، عن بقايا كفن تحمل إجابة.

بالمقابل، يقدم الملف وجهاً آخر أقل إيلاماً ولكنه يعكس تعقيدات المرحلة، يتعلق بلبنانيين آخرين، ليسوا مفقودين، بل هم "مطلوبون". وهنا يفرق الحلبي بوضوح بين عدة فئات.

أولاً، اللبنانيون الذين كانوا مطلوبين على خلفيات سياسية في حقبة نظام آل الأسد. ويشير إلى أن ملفاتهم شهدت مراجعات، حيث يكفي أن يراجعوا مكتب العلاقات العامة في وزارة الداخلية السورية بعد أن يحصلوا على رقم ملفهم من الحدود اللبنانية السورية أو من إحدى الموانئ السورية، وتلقائياً يتم إزالة الاسم من قائمة المطلوبين في غضون شهر كحد أقصى. تبدو هذه آلية "عفو رقمي" تهدف إلى طي صفحة الملفات السياسية القديمة، التي قد تكون واحدة من إرث النظام السابق.

ثانياً، المطلوبون على خلفيات جنائية، وهؤلاء فالأمر متعلق بمتابعة الدعوى قضائياً للوصول إلى خواتمها الطبيعية حسب الأصول القانونية، كما يقول الحلبي، أي أن مصيرهم يخضع للقضاء وليس لقرار سياسي.

أما الفئة الثالثة والأكثر حساسية في المرحلة الحالية، فهم "اللبنانيون المطلوبون للإدارة السورية الحالية". ويوضح الحلبي أن هذا الأمر "مختلف ويتعلق بمكافحة السلطات السورية لجرائم المخدرات وشبكات الاتجار بالبشر والإرهاب". لكن التعاون اللبناني-السوري في هذا الإطار يبدو محدوداً، وفقاً لتصريحه، "لعدم تجاوب السلطات اللبنانية في أغلب الاحيان". وهو ما يشي بتحديات أمنية مستجدة وبخلافات في أولويات الملف الأمني بين البلدين.

وهذا التباين في أولويات الملفات يؤدي إلى حالة من المطالبات المتبادلة التي تخلق جواً من التوتر. فالجانب السوري، كما يقول الحلبي، يذكر "في كل مناسبة نظراته في لبنان بضرورة تسليم مجرمي النظام السابق الذين يتخذون من الأراضي اللبنانية قاعدة نشطة لهم".

ويضيف أن "الطلبات السورية ولا الفرنسية مؤخراً لم تلق أي تجاوب، علماً أن العديد من هؤلاء المطلوبين عليه عقوبات أميركية ومتهم بخطف وقتل مواطنين أميركيين". تعكس هذه المطالبات رغبة دمشق في محاسبة عناصر النظام السابق، ولكن عدم تجاوب بيروت يشير إلى تعقيدات داخلية أو تحفظات لبنانية على تسليم أشخاص قد يعتبرون لاجئين سياسيين أو أن ملفاتهم مثيرة للجدل.

هذه الصورة المعقدة لملف اللبنانيين في سوريا – بين رفات مفقود في مقابر جماعية، وملفات سياسية تم محوها رقمياً، ومطلوبين جدد تتعثر مطاردة – تطرح سؤالاً جوهرياً عن عدالة الذاكرة.

ففي الوقت الذي تجري فيه محاولات لحل ملف السوريين في لبنان عبر قنوات قضائية، يظل ملف اللبنانيين في سوريا غارقاً في الماضي، يعاني من صعوبة الفصل بين ما هو سياسي انتهى زمنه، وما هو إنساني لا يزال ينزف، وما هو جنائي يحتاج إلى تعاون حاضر.


يقرأون الآن