توالت، على نحوٍ لافت، مواقف صادرة عن الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران تدعم مبدأ حصر السلاح بيد الدولة. ويأتي هذا التطور في أعقاب انتهاء الانتخابات العراقية، حيث عاد ملف حصرية السلاح إلى الواجهة مجددًا، لا سيما بعد إعلان موافقة معظم الفصائل عليه، باستثناء كلٍّ من "حزب الله العراقي" وحركة النجباء، اللذين أبديا تشددًا واضحًا في التمسك بسلاحهما. ويُعزى هذا التحول جزئيًا إلى تصاعد الضغوط والتشدد الأميركي بشأن نزع سلاح الفصائل العراقية الخارجة عن إطار الدولة.
يشرح المحلل السياسي العراقي غانم العابد، في حديثه لـ"وردنا"، أن الولايات المتحدة باتت تُولي الملف العراقي اهتمامًا متزايدًا، وقد أعلنت نيتها فتح صفحة اقتصادية جديدة وواسعة، تتيح دخول الشركات الأميركية إلى السوق العراقية. غير أن هذا التوجه يصطدم بعقبة أساسية تتمثل في ملف السلاح المنفلت.
ويضيف العابد أن الولايات المتحدة، في هذا السياق، وجّهت رسائل واضحة إلى بغداد تؤكد ضرورة سحب السلاح من الميليشيات، إلى جانب حلّ هيئة الحشد الشعبي أو دمجها ضمن المؤسسات العسكرية الرسمية، كشرط أساسي للانطلاق بهذه الصفحة الاقتصادية الجديدة. وبالتأكيد، فإن مثل هذه الترتيبات ستُلحق ضررًا بمصالح بعض الميليشيات، وهو ما يفسر اعتراضها المبكر على هذا الطرح، وإعلانها مواقف متشددة أكدت فيها رفضها تسليم سلاحها.
غير أنّ تجدد الوعيد الأميركي، وإعلان الولايات المتحدة أنها لن تسمح ببقاء هذا السلاح في أيدي تلك الميليشيات، دفع واشنطن إلى تعيين مبعوثٍ خاص إلى العراق، وهو شخصية أميركية من أصل عراقي، نظرًا لحساسية هذا الملف وتعقيده، لارتباطه بعدد كبير من الفصائل المسلحة والميليشيات.
ويكشف العابد أنه عقب اختطاف الصحفية سوركوف، وجّهت الولايات المتحدة تهديدًا مباشرًا جديدًا لتلك الفصائل، مفاده أنه في حال عدم الإفراج عنها وعدم إبداء أي تعاون، فإن الضربات ستكون حتمية. ويُعدّ ذلك، بحسب العابد، بداية نجاح سياسة التهديد الأميركية، إذ دفعت هذه التطورات بعض الفصائل إلى تعديل مواقفها، حفاظًا على وجودها، ومصالحها الاقتصادية، وكذلك على حضورها السياسي، ولا سيما أن الانتخابات النيابية الأخيرة منحت هذه الفصائل أكثر من 80 مقعدًا في مجلس النواب العراقي من أصل 324 مقعدًا.
ويرى العابد أن إيران لم ولن تُغيّر موقفها من العراق، لكنها تتعامل ببراغماتية مع الواقع القائم. فطهران تسعى حاليًا إلى الحفاظ على أهدافها ونفوذها داخل العراق، إلا أنها، ومع تصاعد الضغوط الأميركية، خلصت إلى أن الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة لا يخدم مصالحها في المرحلة الراهنة. ومن هنا، بدأت إيران بالعمل على الدفع نحو اختيار رئيس وزراء عراقي يحظى بقبول أميركي، من دون أن يكون معاديًا لها، بما يتيح له، على الأقل، تهدئة التوتر القائم بينها وبين واشنطن.
وفي الوقت نفسه، تحرص إيران على ألا يكون رئيس الوزراء المقبل محسوبًا بالكامل على المعسكر الأميركي على حساب المعسكر الإيراني، وذلك على أمل أن تنتهي ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لتتمكن بعد ذلك من استعادة نفوذها الواسع داخل العراق.
وتُعد هذه السياسة أو الاستراتيجية الإيرانية الحالية في العراق سياسة مرحلية، باعتبار أن الضغوط المفروضة عليها تفوق قدرتها على المواجهة في الوقت الراهن، ولذلك بدأت تحاول التكيف والتناغم مع الخطوات الأميركية ولو بصورة غير مباشرة ومعقدة.
ويشير العابد إلى وجود انقسام واضح داخل الفصائل المسلحة نفسها، إذ أعلنت عدة فصائل، بموجب بيانات رسمية، تأييدها تسليم السلاح إلى الدولة، من بينها عصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، وأنصار الله الأوفياء. غير أنّ هذه المواقف لم تكن موحّدة داخليًا، حيث برزت أصوات داخل بعض هذه الفصائل ترفض تسليم السلاح بشكل قاطع.
وفي المقابل، هناك ميليشيات أعلنت موقفًا صريحًا وواضحًا برفضها تسليم السلاح، مثل كتائب حزب الله وحركة النجباء، مع وجود تباينات بين فصيل وآخر. فالفصائل التي تُقلّد مرجعية المرشد الإيراني علي خامنئي، وغالبيتها تقريبًا، تميل إلى رفض التخلي عن السلاح. وقد توجّه بعض قادتها، قبل أيام، إلى طهران للقاء القيادات الإيرانية والتفاهم بشأن المستجدات الأخيرة. كما يلفت العابد إلى أن عددًا من هذه الفصائل بات يمتلك إمبراطوريات مالية ضخمة، ما يزيد من تمسّكها بسلاحها ونفوذها.
ويكمل العابد أن من بين المطالب التي قدّمتها هذه الفصائل إلى "الإطار التنسيقي" المشكِّل لما يُعرف بالبيت الشيعي، مطالبة الأخير بالتواصل مع الولايات المتحدة للحصول على ضمانات بعدم استهداف هذه الفصائل في حال أقدمت على تسليم سلاحها، وكذلك ضمان عدم المساس بالإمبراطوريات الاقتصادية التي بنتها على مدى السنوات الماضية، ولا سيما منذ عام 2017.
كما تطالب هذه الفصائل، بحسب العابد، بدور سياسي فاعل في الحكومة المقبلة، ما يعكس بوضوح سعيها إلى الحفاظ على نفوذ سياسي مستقبلي، بالتوازي مع الإبقاء على مصالحها الاقتصادية، حتى في حال التخلي الظاهري عن السلاح.
ويتابع العابد أن الفصائل المسلحة تعلن امتلاكها رؤية سياسية جديدة تسعى إلى ترجمتها على أرض الواقع، وتقرّ، بحسب ما جاء في بياناتها، بأهمية العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق. كما أرسلت هذه الفصائل رسائل تطمين إلى واشنطن أكدت فيها أنها لن تستهدف الولايات المتحدة أو مقارّها، ولا حتى حلفاءها في دول المنطقة، مشددة بوضوح على أنها "ليست في حالة حرب" معها. ويأتي ذلك، وفق العابد، في سياق جدية الولايات المتحدة بإنهاء نفوذ هذه الميليشيات، فيما تحاول الأخيرة اعتماد تكتيك سياسي يقوم على كسب ودّ واشنطن لضمان استمرارية نفوذها السياسي وموقعها في عملية صنع القرار، إدراكًا منها أن أي رفض أو تعنّت في مسألة تسليم السلاح قد يفضي إلى الاستهداف، كما تُظهره سوابق عديدة، من بينها ما جرى لحزب الله اللبناني، والحوثيين، ونظام بشار الأسد.
ويختم العابد حديثه لـ"وردنا" بالتأكيد على أن النقطة الأهم تبقى في موقف الفصائل الرافضة لتسليم السلاح، متسائلًا عمّا إذا كانت هذه الأطراف قد تلجأ إلى افتعال الفوضى. كما يطرح تساؤلًا آخر حول موقف هذه الفصائل في حال تجدد الصراع الإيراني الإسرائيلي، وهو سيناريو مرجّح بقوة، وما إذا كانت ستنخرط فيه. ويخلص إلى أن المشهد لا يزال ضبابيًا حتى الآن، محذرا من أن الوضع سيكون أكثر خطورة في حال عودة المواجهة بين إسرائيل وإيران.


