على عتبات المائة من عمره الطويل، لا يزال بطريرك السياسة الأميركية، أو ثعلبها، قادراً على إثارة الغبار، وإحداث ضجيج مدوٍ.
هنري كيسنجر ينذر ويحذر من أن الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن وبكين ستكون أقوى مما جرت به المقادير خلال حقبة الستينات، وصولاً إلى أواخر الثمانينات.
كان كيسنجر لاعباً رئيسياً في دق الأسافين بين بكين وموسكو، ومحاولة عزل الأولى عن الثانية، عبر دبلوماسية البينغ بونغ الشهيرة.
غير أنه اليوم يجد بلاده في موقع وموضع مختلف من منطلقين:
الأول: أوضاع بكين المالية، التي تختلف عن موسكو قبل أربعة عقود، لا سيما أن الصينيين اهتموا أول الأمر، بالقاعدة الاقتصادية، التي تسمح لهم بالانطلاقة القطبية، ومن دون انجرار من غير داعٍ، وراء سباق التسلح، الفخ الذي وقع فيه الروس من قبل، وتسبب لهم في أكلاف عالية وغالية.
الثاني: هو التحالف الصيروسي الماضي قدماً بين بكين وموسكو، كنتيجة غير مباشرة، لأحلام السيادة والريادة الأميركية، الرافضة للمشاركة العالمية في تقسيم الكعكة، والعازمة أمرها على تسنم العالم منفردة، كأن زمن المحافظين الجدد، ورؤية القرن الأميركي، لم يذهبا أدراج الرياح.
هل كيسنجر على صواب في توقعاته لما يراه حرباً باردة جديدة أشد وقعاً وربما أكثر خطورة؟
المؤكد أنه على الجانب الأميركي ترتفع المخاوف بشكل بات يمثل هاجساً آناء الليل وأطراف النهار، ويعتبر الاستراتيجيون الثقات أن من شأن أي صين متنامية أن تعمد منهجياً إلى تقويض التفوق الأميركي، وصولاً، إذن، إلى تقويض أمن أميركا.
يتبدى ذلك جلياً في خطوط الطول، وخطوط العرض، لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي الأحدث، والأولى في زمن إدارة بايدن، فثمة فئات يتزايد عددها بين الأميركيين، من العسكريين والمدنيين، يقطعون بأن الصين عازمة، مثلها مثل الاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة السابقة، على بلوغ السيطرة العسكرية، كما الاقتصادية، على جميع الأقاليم المحيطة وصولاً إلى آخر المطاف، إلى الهيمنة.
تعلمت الصين من دروس الاتحاد السوفياتي السابقة، لا سيما سقطته القاتلة، حيث لم تُغنِ عنه ترسانته النووية، من الوصول إلى الانهيار الاقتصادي.
تعزز الصين سيرتها ومسيرتها التجارية والمالية، وتمد جسورها الاقتصادية مع كل أطراف العالم، من جوارها الآسيوي، حيث روسيا المتلهفة على أي تحالفات، مروراً بمنطقة الخليج العربي، ثم القارة الأفريقية، وصولاً إلى أميركا اللاتينية، وها هو طريق الحرير القديم يتجدد، وحكماً سيقوى عوده، كلما فقدت واشنطن مربعات نفوذ حول العالم من جراء رؤاها البراغماتية المجردة.
يؤمن الصينيون بأنه من دون قوة ردع نووي، يمكن لواشنطن أن تمارس كثيراً من الضغوطات على بكين، ولهذا بدأت القوى النخبوية العسكرية الصينية، في مباشرة عهد نووي جديد، مختلف طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً، عن قناعات الصين السابقة في الاحتفاظ بقدرات نووية متواضعة.
ضاعفت بكين خلال الأعوام الثلاثة الماضية ترسانتها النووية، كما كشفت الأقمار الصناعية الأميركية، وبنوع خاص المكلفة التجسس على الصين، وجود حواضن لصواريخ باليستية ذات رؤوس ذرية، تكاد تصل إلى ألف وخمسمائة، يجري العمل عليها في باطن الأرض، وفيما يشبه "سور الصين النووي العظيم".
يحق لنا أن نعترض على رؤية السيد كيسنجر، فالمواجهة الأميركية - الصينية، المقبلة حكماً، لا سيما في ضوء تدهور الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية في الغرب على جانبي الأطلسي، مما يفتح الأبواب وبشكل واسع لنظريات الهروب إلى الأمام، وعبر الحروب من منطلق أن العنف هو قابلة التاريخ، على حد تعبير كارل ماركس، وأفضل وسيلة لإعادة تشغيل ماكينات المصانع العسكرية الضلع الأهم في عالم المجمع الصناعي العسكري الأميركي بنوع خاص.
إن نظرة سريعة على كتاب "علم الاستراتيجية العسكرية" الصادر عن وزارة الدفاع الصينية أوائل العام الحالي، تعطي القارئ فكرة عن الحرب النووية الساخنة الواردة بقوة، وليس الباردة القائمة بالفعل بين البلدين، رغم تشابك علاقاتهما الاقتصادية والتجارية، ومع قناعات ثابتة بأن أي صراع مسلح سيؤدي إلى خراب اقتصادي مبين من واشنطن إلى بكين.
تبدو سطور استراتيجية الصين النووية، الرادع الصاعق والزاعق في الوقت ذاته، على ما جاء في استراتيجية الأمن القومي الأميركي الأخيرة، التي فيها القطع بأنه إذا كانت روسيا هي الخطر الآني، فإن الصين هي الخوف الأكثر حضوراً في المستقبل المنظور وليس البعيد، مع ما يحمله الأمر من مخططات لإبطاء سرعة التنين الصيني، وصولاً إلى إعاقته، وإن أمكن القضاء عليه دفعة واحدة.
يقول الصينيون: "إن القوات النووية تلعب دوراً مهماً في ضمان مكانة الصين كقوة عظمى غير خاضعة، وحماية المصالح الجوهرية للأمة من أي انتهاك، وخلق بيئة آمنة للتنمية السلمية".
لم تعد المواجهات النووية قصراً على سيد الكرملين، فلاديمير بوتين، الذي أعلن السبت الماضي، عن إبرام اتفاق بين بلاده وروسيا البيضاء لنشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضيها، كخطة يراها كثير من المراقبين إجراء في الساعة الحادية عشرة من المواجهة النووية المحتملة مع الناتو، لا سيما إذا مضت بريطانيا في تزويد الأوكرانيين بمليون قذيفة يورانيوم منضب لدبابات تشالنغر.
قبل أيام وفي حوار له مع صحيفة "نيويورك تايمز"، حذر دانيال إلسبيرغ البالغ 91 عاماً، من مخاطر اندلاع حرب نووية بسبب أزمة أوكرانيا... فمن هو إلسبيرغ؟
باختصار غير مخل، إنه رجل تسريبات أوراق أميركا النووية عام 1971، التي عرفت بأوراق البنتاغون.
ليست حرباً باردة سيد كيسنجر... إنها ساخنة نووية.
صحيفة الشرق الأوسط