لبنان بيئة

خاص - مجازر "اللانيت" تحصد الكلاب والقطط والبشر.. إلى متى يبقى القانون "جثّة"؟

  وجع الكلاب بينما تنتفض متجرّعة سم اللانيت "الهاري"، لا يضاهيه سوى وجع اللبناني على أحوال بلد منكوب في قيمه ومثله الأخلاقية ودعاماته الآخذة في التفكك. ولأنه هكذا غدت الأمور: مجازر بالجملة على عين تجّار الأرواح، لا بد من العودة الى عام 1943، تاريخ حصول لبنان على استقلاله. آنذاك اعتبر لبنان الدولة الأكثر حماية للحيوان في منطقة الشرق الأوسط، وقد بنت حكومته ملاجئ للحيوانات أشرفت على تشغيلها بالتعاون مع منظمات غير حكومية. وفي ذلك الحين، تم تسجيل نحو 14 قضية تتعلق بالإساءة الى الحيوان حوكم مرتكبوها وغرموا في شهر واحد. فما الذي استجد بعد 80 عاما؟

خاص - مجازر

تشهد المجازر الجماعية المرتكبة بحق الكلاب والقطط والتربة والانسان، ولاسيما في السنوات الثلاث الأخيرة بفعل احتدام الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، على أزمة أخلاقية تسمح باستخدام "مبيد اللانيت" كرمى لعيون المتأففين من الحيوانات الشاردة. وبدلا من معالجة المسألة بالطرق العلمية العالمية المستخدمة للحد من تكاثر الكلاب والقطط وغيرهما في الشوارع، أي من خلال الخصي والتعقيم، جاء أسلوب البتر المؤلم، والذي يكلف الحيوان وجعا يساوي أربع الى خمس ساعات من ارتعاشات الجسد الذي تضربه كهرباء السموم ليسلم الروح برغوة بيضاء تخرج من فمه في دلالة فاضحة على مدى سمية الطعام الذي تناوله، والمعجون "بخبث وتآمر عدد من البلديات"، وفق شهادات الناشطين، مع مادة "الميثومويل" التي يتألف منها مبيد "اللانيت" الأشهر عالميا. هذا المبيد المخصص للتخلص من الفئران، وعلاج الأشجار المثمرة من المن والحشرات، إنما بعد تخفيضه بمحلول، ودائما وفق إرشادات وزارة الزراعة.


كيف تعامل لبنان؟

في عام 2017، وبعد سلسلة مجازر أخرجتها مواقع الـ"سوشيال ميديا" الى العلن، أقرّ البرلمان اللبناني قانون حماية الحيوانات والرفق بها. تنص المادة السابعة منه: "يمكن قتل الحيوان تحت إشراف طبيب بيطري، وبإحدى وسائل الموت الرحيم. ويكون القتل واجبا في الحالات التي نصّ عليها هذا القانون. وتحدد وسائل الموت الرحيم بقرار من الوزير وتعدل دوريا وفقا لأحدث التقنيات المتوافرة علميا".

وفي عام 2022، أصدرت وزارة الزراعة بيانا جاء فيه: "بعد تكرار محاولات تسميم الكلاب في أكثر من بلدة، تؤكد الوزارة منع استخدام سم اللانيت في أي محاولة للتخلص من الحيوانات، على أن يتم التعامل مع أي محاولة لتسميم الحيوانات بالأطر القانونية المناسبة عبر اللجوء إلى القضاء المختص والطلب من القوى الأمنية التحرك سريعا لاجراء التحقيقات اللازمة لتحديد هويات الفاعلين ومحاسبتهم". وأكدت الوزارة أنه على "البلديات التحرك من أجل وقف هذه الجرائم المعادية للإنسانية".


لكنّ الذي جرى على الأرض، في ظل تضخم مكبات النفايات، ضرب بعرض الحائط القوانين والدعوات الرسمية، ليغدو الميدان "حارة كل مين إيدو الو"، والحيوانات سارحة في حدود 50 ألف كلب شارد، بعد أن كانت في حدود 20 ألفا قبل خمس سنوات، وما من وسيلة للحد من مخاطر "عضة كلب" أو الاصابة بداء السعار، سوى التخلص الجماعي منها بمباركة البلديات، وذلك للتعامي عن مزيد من النفقات التي تتطلبها إجراءات الخصي والتعقيم والتلقيح.

تآمر البلديات؟

تؤكد الناشطة في حماية الحيوانات غنى نحفاوي تآمر عدد من البلديات في جرائم القتل الجماعي المتكررة، منطلقة من تجربة خاصة: "طلبت من متجر لبيع الأسمدة الزراعية مادة اللانيت بحجة التخلص من الفئران، فاعتذر البائع مبينا: يسمح ببيع هذه المادة للبلديات فقط وليس للأفراد".

تعلق نحفاوي، التي تعرضت للملاحقة القانونية أكثر من مرة بفعل الاعلان عن أسماء المتآمرين في قتل الحيوانات: "يكفي اعتراف البائع هذا لمعرفة ما يجري في الخبايا". وتلفت: "هناك استثناءات، إنما لا تتجاوز أصابع اليد، بينها ما قامت به بلديتي طرابلس والميناء لجهة إنشاء ملاجئ للحيوانات الشاردة".


وتحذر نحفاوي من مادة اللانيت: "هذه المادة لا تقتل الحيوان فحسب، وإنما الانسان من خلال تسربها في التربة والنباتات. وفي مواجهة المخاطر المترتبة على استخدامها، على وزارة الداخلية أن تكون صارمة في ملاحقة الجهات التي تنشر هذه السموم، علما أن العدد الأكبر من الكلاب الشاردة تعود في الأساس لأشخاص تخلوا عنها جراء الأزمة الاقتصادية، وبفعل الترويج لفرضية أن الحيوانات تسهم في نشر الكورونا".

جمعية "كارما"

بعد موجات العنف التي استهدفت الكلاب، من إعدامهم بالرصاص، الى تسميمهم وتصويرهم يلفظون أنفاسهم، وبعد معاناتهم من التهديد الدائم والمستمر بالقتل في العديد من المناطق و تحديدا في طرابلس، أسست زينب رزوق مقدم، قبل 8 سنوات، جمعية "كارما" منطلقة من طرابلس على أمل التوسع لتشمل مختلف المناطق، وتؤمن مع عدد من المتطوعين، المأوى والغذاء المطلوب والعقاقير الطبية اللازمة.

تذكر زينب أن فكرة الجمعية انطلقت من حادثة تسميم 22 كلبا في منطقة الميناء في طرابلس. وعندما تقدمت بدعوى للادعاء على المجرم، سألها المحقق: "مش محرزة هودي كلاب شوارع". فكان القرار بتأسيس الجمعية من أجل تأمين صفة رسمية للدفاع عن حقوق هذه الأرواح المظلومة.

ونجحت زينب، قبل خمس سنوات، بإنشاء ملجأ للحيوانات في طرابلس على أرض تعود لبلدية الميناء. توجز تجربتها: "شكّل العام الفائت التجربة الأصعب في مسيرة الجمعية نظرا للأعداد الكبيرة من الحيوانات الأليفة التي تركت في الشارع"، منددة بهذا الفعل اللاإنساني: "غالبية هذه الحيوانات لا تعرف أن تدافع عن نفسها في الشارع، ولذلك وصلت أعدادا كبيرة منها مصابة بكسور جراء تعرضها للضرب أو حوادث السير أو الهجوم من حيوانات برية".


وكانت نظمت "كارما" حملات توعية لطلاب المدارس بهدف حثهم للاهتمام بالكلاب ومساعدتها. ومن خلال مواقع التواصل، تسعى لتأمين منازل للكلاب المشردة من خلال منشورات تضعها على صفحاتها لمن يرغب بإيوائها أو الاهتمام بها. تعلق زينب: "كل هذه الأمور بحاجة الى تغطية مالية ضخمة، وليس لدينا أي دعم من منظمات أو جمعيات، وإنما تنحصر التقديمات من خلال مبادرات فردية مع تراجع كبير في نسبة الذين يقدمون على التبني.

ولا يفوت زينب توجيه الشكر الى عدد من الأطباء البيطريين الذين تعاونوا مع الجمعية للتخفيف من عبء الفواتير، ومع ذلك ترزح الجمعية تحت وطأة الفواتير المتضخمة نتيجة خضوع بعض الحالات لأكثر من عملية، في حالات الكسور الصعبة.

ثقافة الرحمة

يلخّص الناشط في مجال الرفق بالحيوان، والمسؤول والمشرف على مأوى ومحميّة الكلاب في منطقة الكفور حسين حمزة، الجرائم المرتكبة بحق الحيوانات، بالآتي: "تنقصنا ثقافة الرحمة"، منتقدا تنامي ظاهرة التخلص من الحيوانات إما بالاعدام أو اللانيت أو الرمي في الشارع، ويقول: "للأسف اللبناني يملك المال لتأمين تبغ الأركيلة والبنزين لزوم الكزدورة، ويغص بحماية حيوان أليف".

نشأ حمزة في ألمانيا، ثم اختار أن يأخذ على عاتقه حماية الكلاب من خلال محمية، جعلها ملجأً ومأوىً لتجميع الكلاب وإطعامها وتدجينها وترويضها ورعايتها ومداواتها. يقارن حمزة: "في أوروبا يتولى الصبي الاهتمام بحيوانه الأليف منذ الصغر، سواء لجهة الكزدورة الصباحية أو تأمين الطعام واللوازم من مصروفه، وبذلك تجري تهيئة الأجيال لتحمل المسؤولية والالتزام المبكر". أما في لبنان، فإن "الراشد وليس الصبي الصغير، هو من يتخلى عن كلبه الأليف أو حيوانه، بغرض نفض يده من أدنى متطلبات الالتزام الأخلاقي والمادي، وهنا تكمن المعضلة الكبرى في تنشئة الأجيال على التخلي واللامسؤولية".

هوية وغرامة

هل يمكن الترخيص للحيوانات؟ يبقى الحلم معلقا في ظل الفوضى المنسحبة على مختلف الجوانب الحياتية، في وقت تعتمد الدول الصديقة للحيوان بطاقة هوية تكشف المالك سريعا في حال تخلى عن حيوانه. أما لجهة الكلاب الشاردة، فلا مناص من الخصي والتطعيم للحد من تكاثرها.. وكلها اجراءات تنتظر الخروج من الفوضى الى نور القوانين التي تبدّي الأرواح على الأرزاق. فمتى يتحقق ذلك؟

يقرأون الآن