كلام كثير سمعه لودريان من مختلف الاطراف الذين التقاهم، وأسئلة أكثر طرحها المبعوث الفرنسي عليهم إذ أكد مصدر نيابي تواجد في إحدى الجلسات معه لموقع "وردنا" أنه كان يستمع، ويصغي، ويدوّن الملاحظات، لكن أيضا كان يناقش. والمفارقة أن الدبلوماسي العريق، الذي يتمتع بالنفوذ للتعامل مع القادرين على الحل والربط، وبالخبرة الواسعة في إدارة الأزمات، والمطّلع جداً على الملفات والمشكلات اللبنانية، وكان أول من حذّر المسؤولين في لبنان من خطورة الوضع، ومن "المستقبل الغامض"، مشبّها إنهيار لبنان السياسي والاقتصادي بـ"انهيار سفينة تايتانيك لكن من دون موسيقى"، يعود اليوم ليستمع إليهم أنفسهم، علّه يتمكن من تحقيق معجزة تخرجهم من دائرة الانقسامات الأفقية والعمودية.
إذا، في ظلّ الستاتيكو القائم، وتشبّث الأفرقاء بمواقفهم، وتمترسهم خلف مصالحهم، فالسؤال البديهي الذي يراود الكثيرين: ما الجديد الذي سمعه لودريان من المسؤولين في جولته الاستطلاعية، وماذا يمكن أن يضيف أو يقدم جديدا خصوصاً أن فرنسا مطلعة جداً على التفاصيل والزواريب السياسية اللبنانية، وكانت تسعى منذ بدء الشغور الى إيجاد حلّ، وطرحت مبادرة لم تنجح؟. سؤال، أجاب عنه أحد النواب الذي يعرف لودريان جيدا، فيقول: الموفد الفرنسي الجديد، لديه مزايا خاصة، وتاريخ يستند اليه في تكليفه بمهمات صعبة، ورغم معرفة فرنسا بالتفاصيل اللبنانية، فالتعويل كبير على الشخصية المكلفة بالمهمة كما لا بد من تسجيل نقطة هامة جدا يمكن الاستناد اليها في أي مبادرة أو حلّ متوقع، وهي التقارب المسيحي المستجد، خصوصا في الملف الرئاسي، وما أفرزته جلسة 14 حزيران من اصطفاف مسيحي، يؤخذ في الإعتبار رغم أن رئيس الجمهورية هو رئيس جمهورية لبنان، لكنه وفق تقسيم الحصص، فهو من حصة المسيحيين.
أليس من المعيب أن ننتظر وساطة من هنا ولقاء خماسي من هناك، لانتخاب رئيس جمهورية لبنان
على أي حال، فإن لودريان، ركّز في جولته الاستطلاعية على بعض الأسئلة التي تمحورت حول: ما هو المخرج لإنتخاب رئيس الجمهورية؟ ما هي المهمات الرئيسة الملقاة على عاتق الرئيس المقبل بغض النظر عن العناوين العريضة المتفق عليها؟ ومن هي الشخصية القادرة على تنفيذ هذه المهمات مع الأخذ في الاعتبار الواقعين المحلي والاقليمي؟ ومن هي الشخصية التي يمكن أن تشكل قاسما مشتركا بين اللبنانيين لخرق المراوحة القائمة؟ وفي حال حصل انتخاب الرئيس، هل سيحصل النزاع حول رئيس الحكومة؟ كيف تنظر القوى السياسية الى تركيبة الحكومة؟. وبعد أن سمع الأجوبة، سيعمل الموفد الفرنسي على جوجلة الأفكار لدرسها ليس فقط مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انما مع "اللقاء الخماسي+ إيران" الذي هو رافعة أساسية لمهمته.
ووفق معلومات حصل عليها "وردنا"، فإن لودريان يطرح المواصفات بعيدا عن الأسماء، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب أي رئيس جمهورية من فريق معين ورئيس حكومة من الفريق الآخر، واذا وافقت القوى السياسية على المواصفات، يتم البحث بالأسماء التي يجب أن تحظى برضى متبادل حول رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وحول الحكومة. إذا، الموفد يعمل على هذه التركيبة الثلاثية، ويحاول تشكيل خارطة طريق أو تصوّر لحلّ الأزمة من خلال التوصل الى قواسم مشتركة بين الأفرقاء على أمل أن تتبلور لاحقا. وبالتالي، فرنسا كما مختلف عواصم القرار، أصبحوا على قناعة أن هناك استحالة في إنجاز الاستحقاق الرئاسي وفق مبادرة طرحتها باريس سابقا خصوصا بعد الإجماع المسيحي على رفض رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية. وليس مستبعدا، الذهاب نحو توفير الظروف لحوار وطني، يفضي الى سلة من التفاهمات، تؤدي الى خيار رئاسي توافقي، من خارج الاصطفافات الحالية، ورئيس حكومة وشكل الحكومة التي يجب أن تتألف سريعا.
كل ذلك، يبقى في إطار التكهّنات، والرهان على قدرة لودريان في التواصل مع الدول المعنية بالملف اللبناني، وإقناعهم في تسهيل مهامه، ونجاحه في انتشال اللبنانيين من مستنقع خلافاتهم في ظلّ معطيات متضاربة حول موقف السعودية من الملف الرئاسي إذ أن البعض يقول إنها لا تزال على موقفها، ولن تتدخل في الشأن اللبناني إذ لفت مصدر مطلع في حديث مع "وردنا" الى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التدخّل لدى طهران لتسهيل الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وأن يترجم الاتفاق السعودي - الايراني على الواقع اللبناني، فاكتفى ولي العهد، بالقول: سننسق معكم. في حين، تتحدث بعض المعطيات عن تنسيق جدي ودائم بين الرياض وباريس من جهة، وبين الرياض وطهران من جهة ثانية، للتوصل الى تقاطع حول شخصية الرئيس العتيد، انطلاقاً من قاعدة التعامل مع نتائج جلسة 14 حزيران/يونيو.
وفي هذا السياق، أكد أحد وزراء الخارجية السابقين لموقعنا أن لبنان ليس ضمن أولويات الدول المعنية، وليس بندا أساسيا على طاولات التفاوض، ونحن ننتظر التسوية الكبرى، وحين يحصل التفاهم الإيراني - الأميركي في الملف النووي، تتغير اللهجة في الداخل لدى كل الأطراف لأن التجربة التاريخية، علّمتنا ان رئيس الجمهورية يعيّن من الخارج . للأسف، "نحن دولة دون سيادة، ولا يمكن أن ننتخب رئيسا". فرنسا وسيط، لكن لا يمكنها وحدها حلّ الأزمة في لبنان إنما هناك ثلاثة أقطاب يملكون الحل، أي السعودية وإيران وأميركا. وفي وقت تعمل الدول لمصالحها، نحن نقوم بكل ما أمكن عكس مصالحنا.
في حين سأل أحد نواب المعارضة: "أليس من المعيب أن ننتظر وساطة من هنا ولقاء خماسي من هناك، لانتخاب رئيس جمهورية لبنان؟ لماذا ننتظر الخارج ليأخذ القرار عنا؟ لا يجوز التعويل دائماً على الخارج الذي لديه مصالحه الخاصة، ولا يجوز أن نستسلم لمصالح الدول. المعضلة الأساسية في الداخل، وعلينا العبور الى الدولة التي تتماشى مع التطورات الحاصلة في المنطقة والاقليم حيث العنوان الأساس، الاستقرار.
كل المؤشرات الحالية تقول أن الأفق الرئاسي لا يزال ضبابيا وقاتما ولم تبلغ المبادرات أو الوساطات أو المساعي، الحد الأدنى من النضوج
إذا، جولة لودريان، قطعت الشك باليقين أي انها إستكشافية، استطلاعية على أن يعود الى لبنان في وقت لاحق اذ أكد أحد المطلعين لموقع" وردنا" أن الزيارة المقبلة مرتبطة بنتائج ما يمكن أن يتوصل اليه الموفد الفرنسي من استطلاع وخلاصات في جولة اللقاءات الأولى، وكلما كانت الزيارة الثانية قريبة، كلما دلّ ذلك على الإيجابية، وإمكانية الحلحلة، وكلما كانت الزيارة المقبلة بعيدة، فهذا يدل على أن الوساطة الفرنسية، تواجه تعقيدات كبيرة. وبالتالي، لا يمكن تحديد موعد الزيارة الثانية رغم الحديث عن انها ستكون في تموز/يوليو المقبل، لأن مهمة الموفد الفرنسي معقدة، ومرتبطة بمدى تجاوب الدول المعنية معه كما بتنازل الأفرقاء في لبنان عن مواقفهم، وملاقاة بعضهم الى منتصف الطريق.
وعليه، لا بد من التأكيد أن الموفد الفرنسي لا يحمل عصا سحرية، طالما أن واقع الاصطفاف اللبناني لم يتغير، ولم تتحلحل العقد الناتجة عنه، والمواقف لا تزال على تصلّبها مع إقتناع معظم الجهات في الداخل أن مسألة الحل والربط في أيدي اللبنانيين أنفسهم الذين إن كانت لديهم الرغبة والإرادة للتسهيل، وإخراج البلد من مأزقه، يمكنهم إنتخاب الرئيس من دون حتى أي وساطة دولية، وإذا تشبّثوا بعنادهم وكيدياتهم وتمترسهم خلف مصالحهم، فما من دولة في العالم أو وساطة مهما علا شأنها، ستنجح في وضع البلد على المسار الصحيح. وهذا، ما أكد عليه الوسيط الفرنسي حين قال من بكركي: "انا لا أحمل أي طرح، لكنني سأستمع الى الجميع، والحل في الدرجة الأولى يأتي من اللبنانيين".
وانطلاقا من هذا الواقع، وبعد انتظار ثمانية أشهر لملء الشغور، فإن كل المؤشرات الحالية تقول أن الأفق الرئاسي لا يزال ضبابيا وقاتما، ولم تبلغ المبادرات أو الوساطات أو المساعي، الحد الأدنى من النضوج، وليس مستبعدا أن "يرحّل الاستحقاق الرئاسي الى ما بعد موسم الصيف أو حتى الى نهاية السنة الحالية اذا لم يطرأ أي مستجد في الداخل". وطالما أن الكل يجمع على استحالة انتخاب الرئيس بعد تكرار السيناريو العقيم على مدى 12 جلسة إنتخابية، ينتظر اللبنانيون، المبادرات الخارجية لتنتشلهم من مستنقعهم على قاعدة أن الغريق يتمسك بقشة للنجاة من الغرق، فهل ينجح لودريان في إنقاذهم؟.