من خارج تصادم القراءات والتحليلات وضرب المنادل حول حرب غزة، ضبطاً أو توسيعاً، ومن خارج التوقعات عن انخراط إيران ومعها "حزب اللّه" وأذرعها الأخرى في حرب شاملة، أو انكفائها عنها، هناك حقيقة تشق طريقها بقوة لتفرض نفسها على مسار التطورات، هي أن هذه الحرب مرشحة كي تكون خاتمة الحروب باسم القضية الفلسطينية، وأن ما بعدها سيشهد تحديد الأحجام على طريق السلام.
وتحديد الأحجام لا يقتصر فقط على "حركة حماس" وكلّ المنظمات المتطرفة، بل على إسرائيل نفسها بعد انكسار جبروتها في عملية "طوفان الأقصى" ولو حاولت رفع معنوياتها بردود انتقامية، بحيث تستغل القوى العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، تصغير حجم العدوَّين المتصارعَين بعد إنهاكهما، تمهيداً لإدخالهما في خرم إبرة الحل الممكن، سواء كان حل الدولتين كما طُرح في صيغته البيروتية الأولى، أو مع تعديلات منطقية عليه يقبل بها طرفا النزاع.
والواضح أن حرب غزة تدور بين الطرفين الرافضَين صيغة الدولتين، وستؤدي إلى كسر متبادل لهذا الرفض.
فمن جهة إسرائيل لا يعود نتنياهو وحكومته المتطرفة، خصوصاً بعد تعديلها بحكومة طوارئ، في موقع القادر على الرفض بعد الجراح الثخينة التي أصابت إسرائيل، ومن الجهة الفلسطينية تتم إعادة عملاق "حماس" إلى القمقم، وترويض استباحتها قرار الحرب والسلم، لمصلحة إنعاش قوى الاعتدال الفلسطيني في رام اللّه وسائر المنظمات المتحررة من الوصاية الإيرانية.
صحيح أن مسعى التطبيع العربي الإسرائيلي تم تجميده راهناً بفعل المآسي الإنسانية في غزة، لكنه سينطلق باندفاعة أكبر بعد انتهاء الحرب، خصوصاً أن العائق الإيراني الذي كان أبرز أسباب اندلاع "طوفان الأقصى" وتوقيته، تتم إزالته بتحجيم "حماس" من جهة، ولجم "حزب اللّه" من جهة أخرى، وتهدئة طهران بوعود حول ملفها النووي وأموالها المحتجزة.
وليس تردد إيران حتى الآن في دخول الحرب وتوريط "حزب اللّه" مرتبطاً بالاجتياح الإسرائيلي البري لغزة، ولا بترك القرار لـ"المقاومة" كما حاولت الترويج عبر تصريحات وزير خارجيتها عبد اللهيان في بيروت، بل بحسابات دقيقة على طريقتها البراغماتية السجّادية، حول خطورة تورطها في حرب طاحنة ليس لها فيها سند دولي فاعل، لا من روسيا ولا من الصين، ولا من دول إقليمية كتركيا مثلاً، بينما لا تكفي القوى والمنظمات التي أنشأتها في الدول العربية الأربع اليمن والعراق وسوريا ولبنان لمواجهة الحرب مع القوى العظمى التي نشرت بوارجها من المتوسط إلى الخليج.
وإذا أخطأت إيران في تقديراتها، فإنها ستتعرض لحرب غير متكافئة، وتكون النتيجة نفسها، سواء انخرطت في الحرب أو انكفأت:
ذهاب المنطقة، وتحديداً القضية الفلسطينية، للإفلات من استغلالها، والدخول في تسوية تاريخية قائمة على توازن القوى الإقليمية، تعود من خلالها "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" إلى حجمها الوطني المتساوي مع العرب وتركيا وإسرائيل.
أمّا لبنان فإنه سيستفيد من هذا التوازن الإقليمي والاستقرار السلمي، ويستعيد توازنه الداخلي مع تحوّل "حزب اللّه" إلى مكوّن سياسي داخلي مذهبي وطني، وتُعاد صياغة الإدارة اللبنانية بما يريح المناطق والمكونات، على أساس احترام الخصوصيات، بغض النظر عن مسمّيات هذه الإدارة الجديدة، لامركزية أو سواها.
في الحروب، يمكن القول: ربّ ضارّةٍ نافعة.
والضرر الموجع الناتج عن حرب غزة، لا بدّ له من أن يُنتج منفعة لشعوب المنطقة ودولها.