لا أنسى ذلك اليوم الذى دعا فيه قداسة البابا شنودة الثالث جمعًا كبيرًا وحشدًا متميزًا من المثقفين والسياسيين والإعلاميين المصريين والعرب فى القاعة الكبيرة للكاتدرائية المرقسية، وكان ذلك فى مطلع هذا القرن حيث كانت القضية الفلسطينية تمر بواحدة من أصعب منعطفاتها، وكانت إقامة الزعيم الفلسطينى الكبير ياسر عرفات محددة فى مقره بالمقاطعة فى رام الله، وكانت الأجواء الإقليمية متوترة عمومًا بسبب سياسات إسرائيل المعروفة وتصرفاتها العدوانية، وكان من بين المدعوين اثنان خدما فى مؤسسة الرئاسة هما السفير الراحل أسامة الباز مستشار رئيس الجمهورية للشئون السياسية وكاتب هذه السطور الذى كان يشغل موقع رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى البرلمان المصرى، وقد احتشد الجميع لسماع كلمة وطنية تفيض علمًا وسياسة وروحانية من قداسة البابا الذى أطلق عليه الجميع (بابا العرب) بسبب مواقفه القومية الواضحة ومبادئه الثابتة عربيًا ومصريًا، وقد أجرى البابا يومها اتصالًا تليفونيًا مسموعًا أمام الآلاف من الحاضرين بالرئيس أبو عمار، وكان لذلك وقع طيب على الرئيس الذى كان يعانى ورفاقه المناضلون السياسيون العزلة السياسية والإبعاد القسرى إذا جاز التعبير فى ذلك الوقت، وقد حرص البابا شنودة دائمًا على إبراز عروبة أقباط مصر وانحيازهم الشديد للحقوق الفلسطينية المشروعة وتعاطفه الواضح مع الظروف الصعبة التى يعانيها الشعب الفلسطينى على امتداد ثلاثة أرباع قرن، وهو ذاك البابا الذى ألقى محاضرة شهيرة عن علاقة اليهود بالسيد المسيح وخطاياهم فى حقه، وهو ذاته الذى قال: إن اليهود ليسوا شعب الله المختار، كما أن فلسطين ليست هي أرض الميعاد، وقد فند البابا الراحل ذلك بالأدلة والبراهين، ولا يخفى علينا أن البابا شنودة هو أستاذ فى التاريخ وعالم فى اللاهوت بل وضليع فى كثير من القضايا المتصلة بالحضارة العربية الإسلامية وشئون المنطقة عبر القرون، وأتذكر من لقائى معه بأننى كنت مبهورًا بعلمه الغزير ونظرته الشاملة لأصحاب الديانات من أهل الكتاب وأتذكر له أيضًا موقفه الثابت فى عدم السماح للأقباط بزيارة القدس والتبرك بكنيسة المهد، مطالبًا بأن يدخل المسلمون والمسيحيون إلى القدس ومسجدها الأقصى وكنيسة القيامة وهم جماعات متراصة دون تفرقة أو تمييز بحيث يدخل الجميع إلى المدينة المقدسة، لأن القدس هى مدينة أصحاب الديانات السماوية دون تفرقة أو تمييز لكن الحركة الصهيونية غيرت المعالم التاريخية الواضحة وحاولت طمس هوية تلك المدينة العربية المقدسة، ولكن كان لهم أصحاب الوعى وذوو المعرفة فى أنحاء العالم بالمرصاد، لأن تزييف التاريخ لا يمتد إلى العبث بالديانات أيضًا، ولقد ظلت الكنيسة القبطية قابضة على مبادئها متمسكة بثوابت القضية الفلسطينية دائمًا باعتبار أن أقباط مصر جزء لا يتجزأ من النسيج المصرى العريق الذى يحترم الحقائق ويؤمن بالمبادئ ويتمسك بالثوابت، ولقد حظيت الكنيسة القبطية بقدر كبير من الاحترام القومى والشعور الوطنى بأنها تؤمن بالمصير المشترك لكل أبناء الوطن الواحد، ولقد كنت فى زيارة برلمانية فى دولة البحرين فى ذلك اليوم الذى رحل فيه قداسة البابا شنودة الثالث عن دنيانا وأدركت يومها أن الذكرى الطيبة هى الباقية والسمعة الحسنة هي التى تستمر، فقد كان الحزن واضحًا على الجميع برحيل ذلك الحبر الجليل الذى أعطى للكنيسة القبطية توهجًا واضحًا، وقد استكمل مسيرته ومضى على طريقه البابا المستنير تواضروس الثانى الذى يتسم هو الآخر بالحكمة والهدوء والقدرة على مواجهة المصاعب وحل المشكلات من أقصر الطرق وأيسر المعلومات وأقل الخسائر.
إن الكنيسة القبطية قد تعاونت دائمًا مع الأزهر الشريف فى عناق تاريخى طويل تحت رايات القومية العربية والوطنية المصرية وامتزجت دماء الجميع فى الحروب التى خاضتها المنطقة حفاظًا على كرامتها، إن الكنيسة القبطية أيضًا التى تضم العدد الأكبر من مسيحيى الشرق الأوسط كانت دائمًا ولا تزال محافظة على مبادئها، حريصة على طقوسها، متمسكة بثوابتها خصوصًا أن قضية الشعب الفلسطينى قد أصبحت حاليًا بحق هى قضية الفرص الضائعة، كما أنها - بعد الحرب الأخيرة على غزة - قد تسللت إلى ضمائر الإنسانية فى كل أصقاع الأرض وباتت تتحدث فى دهشة عن غطرسة إسرائيل وأساليبها التى اتسمت دائمًا بإنكار الحقائق والعبث بالمقدسات وسرقة التراث وتزييف التاريخ!