عادت المياه إلى مجاريها بين الإمارات و"أوبك+"، ورغم ذلك فإن العلاقة بينهما محفوفة بالتحديات.
قُبيل الاجتماع الأخير لـ"أوبك+"، وبالتزامن مع الخلافات التي شهدها التحالف في وقت سابق من هذا الشهر، أصدرت شركة "بي بي" (BP) بياناتها السنوية في تقرير بعنوان "المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية" (Statistical Review of World Energy). وفي إشارة إلى تدخل "أوبك+" بهدف تحقيق الاستقرار في أسعار النفط العام الماضي، أشار فيه سبنسر ديل، كبير الاقتصاديين في الشركة، إلى أن "قدرة التحالف على القيام بذلك بشكل دائم تعتمد على نوع الصدمة التي تؤثر في أسواق النفط، إذ إن قدرة تحالف (أوبك) على تحويل العرض بين الفترات الزمنية من آنٍ إلى آخر تعني أن لديه القدرة على تعويض الصدمات المؤقتة قصيرة الأجل.
يُعَدّ تأثير تحالف "أوبك+" كبيراً نسبياً، إذ يمكنه حجب النفط لمعالجة فائض العرض ودعم الأسعار، أو "تحويل العرض بين الفترات الزمنية"، على حد تعبير ديل. وقام التحالف بذلك عام 2017 لتقليل مخزونات النفط المتضخمة، كما فعل ذلك مرة أخرى العام الماضي لمجابهة جائحة كورونا.
لهذا السبب، حتى لو استأنفت الإمارات وتحالف "أوبك+" تعاونهما الآن، فسيعاودان الافتراق مع مرور الوقت. وبمجرد أن تمر صدمة كورونا ستظهر مشكلة هيكلية من جديد، تتمثل في أن العالم يملك وفرة من النفط ونقصاً في القدرة على امتصاص الانبعاثات الناجمة عنه.
مصير مماثل لاتفاقية القصدير
استهلك العالم نحو 173 مليار برميل نفط خلال السنوات الخمس الماضية، وفقاً لأرقام شركة "بي بي". ولا تزال الاحتياطيات المؤكدة تزداد بشكل طفيف، لتصل إلى 1.73 تريليون برميل في نهاية عام 2020. لكن حتى لو زاد الطلب بخط مستقيم من 96.5 مليون برميل يومياً هذا العام إلى 150 مليون برميل يومياً عام 2040، فإن الاحتياطيات ستغطي ذلك مرتين تقريباً.
لكن بالطبع فإن أكثر التوقعات تفاؤلاً لا تشير إلى طلب متزايد يصل إلى هذا الحجم، ويرجع ذلك جزئياً إلى تأثير الأمر في الانبعاثات، وبالتالي تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يبلغ الطلب 101 مليون برميل يومياً بحلول عام 2040، ما لم يذهب العالم إلى صفر انبعاثات بالكامل، وفي هذه الحالة ينخفض الطلب إلى النصف. لذلك هناك كثير من النفط، وبسعر معقول، إذ تقدّر شركة "ريستاد إنرجي" (Rystad Energy) الاستشارية أنه يمكن إنتاج 1.3 تريليون برميل يومياً بمتوسط سعر حقيقي لمزيج برنت يبلغ 50 دولاراً لكل برميل. وقد جرى تداول برنت عند نحو 74 دولاراً يوم الجمعة.
ما من شك أنه بالنسبة إلى أي مُنتِج للنفط يملك كثيراً من الموارد في الأرض، إلى جانب الإمكانات اللازمة لزيادة الإنتاج، والقدرة على التعايش مع الأسعار المنخفضة، فإنه من الجنون كبح جماح الإنتاج إلى الأبد. في تقرير حديث يقارن "أوبك+" باتفاقية القصدير الدولية القديمة -التي انهارت عام 1985 بسبب انخفاض المعروض والإحلال (هل يبدو الأمر مألوفاً؟)– يحسب فيليب فيرليغر، الخبير الاقتصادي في مجال الطاقة، الضرر بالنسبة إلى الدول الأعضاء في حال إطلاق العنان للإنتاج وانخفاض سعر النفط إلى 40 دولاراً. وفي الواقع كانت الإمارات هي الأكثر صموداً رغم خسارة 14% من حصتها، كما تتميز الإمارات بأن التعادل المالي في ميزانيتها للعام الحالي يتطلّب سعر 65 دولاراً للبرميل، وهو مستوى التعادل الأدنى مقارنة بباقي دول "أوبك، ويتجه إلى مزيد من الهبوط.
إنّ تحالف "أوبك+" منقسم اليوم أكثر من أي وقت مضى من حيث القدرات والاحتياجات، فمن الصعب تخيُّل نادٍ يضم كلاًّ من الإمارات وفنزويلا (يزيد الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الإمارات بمقدار 127 ضعفاً عن مثيله في فنزويلا) وفي الوقت عينه يُسيِّر شؤون النفط برشاقة وتماسُك في هذه المرحلة.
التفاوت بين دول التحالف
من بين 23 عضواً في "أوبك+"، فإنّ الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في 15 دولة أقل من متوسط الأسواق الناشئة البالغ نحو 11 ألف دولار سنوياً، في حين تعاني 11 دولة عضواً من انخفاض بهذا المقياس خلال العقد الماضي (قبل جائحة كورونا)، فيما شهدت 14 دولة ذروة إنتاجها النفطي منذ أكثر من عقد. وقد جمعت 6 دول أعضاء، تمثّل نحو سدس الطاقة الاحتياطية، بين هذه الثلاثية الشائكة.
في الوقت عينه، فإن 4 دول أعضاء فقط لم تُظهِر أيّاً من أوجه الضعف هذه، وهي: البحرين، وروسيا، والسعودية، والإمارات، التي تمتلك مجتمعةً أكثر من نصف طاقة "أوبك+" الإنتاجية والاحتياطية. وفي حين أن تأثير البحرين محدود في هذا الإطار، وروسيا ليست عضواً في منظمة "أوبك" القديمة، وفي ظل تخفيف الروبل العائم من أثر أسعار النفط الضعيفة، فمن المحتمل أن تتخلى موسكو عن أهداف الإنتاج عندما يكون ذلك مناسباً، وهي كانت على استعداد لفعل ذلك قبل صدمة كورونا. وهذا يترك السعودية والإمارات فقط، وكلتاهما تتحضر لعالم يشهد ذروة الطلب على النفط، مع إظهار الأخيرة مزيداً من المرونة والتصميم.
في هذا الصدد، ترى وكالة الطاقة الدولية في "خريطة الطريق" الأخيرة الخاصة بصافي صفر انبعاثات، أن متوسط دخل الفرد من مبيعات النفط والغاز في اقتصادات الدول المنتجة سينخفض هذا العقد إلى مستويات تسعينيات القرن الماضي، وإلى نحو نصف ذلك في العقد الذي يبدأ عام 2030. قد تكون هذه التوقعات أشبه بالعيش في "أرض الأحلام"، على حد تعبير المملكة العربية السعودية. والنقطة الأكثر بروزاً هي أن معظم دول "أوبك+" بالكاد تستطيع إدارة واقعها الحالي، وبالتالي ستكون "أرض الأحلام" هذه بمثابة الجحيم بالنسبة إليها.
هذا هو السبب في ضرورة تخفيف التوقعات بشأن تدخل شركات النفط الوطنية لسد الفجوة في ظل تقييد الشركات الغربية الكبرى للاستثمار، إذ تكافح عدة شركات نفطية حكومية لمجرد الحفاظ على الإنتاج على أراضيها، ناهيك بغزو العالم. ومع ارتفاع الطلب على النفط وانخفاضه، من المرجح أن تقلص بعض الدول النفطية ذات التكلفة المنخفضة الإنتاج بفعل الاضطراب الاقتصادي. وللتذكير فإن كثيراً من "انضباط" تحالف "أوبك+" في أول عامين له كان في الحقيقة مجرد زيادة لمعاناة فنزويلا.
في الوقت عينه، فإن أصحاب الثروة سيرفعون الإنتاج، وسيكون ذلك على الأرجح من خلال تخفيف القيود على الاستثمار الأجنبي، وهو أمر تتقدم فيه الإمارات أيضاً. وفي الحقيقة، تشكّل تحالف "أوبك" وبعده "أوبك+" من أجل عالم يرتفع فيه الطلب على النفط فقط، وتكون الاحتياطيات فيه مثل الأموال التي تتزايد في البنك. ولكن مع تغير العالم، فإن الأعضاء القادرين على ذلك سيحصدون الأرباح ويخرجون منتصرين.
بلومبرغ الشرق