مع اختتام القمة العالمية للحكومات يوم الأربعاء في دبي، وبعد أن تعمّقت منتدياتها المختلفة في السياسة والاقتصاد والثقافة على مدى ثلاثة أيام تقريبًا، برز توافق بين المشاركين على سيطرة موضوع واحد على معظم نقاشات القمّة، بدءًا من الكلمة الافتتاحيّة وصولًا إلى الكلمة الختامية، ألا وهو الذكاء الاصطناعي، مما يعكس في رأي واقع المرحلة التي نعايشها اليوم.
ولا يجب أن يكون ذلك مفاجئًا. فكما أدركنا في كلّ يوم منذ العام الماضي، أن الذكاء الاصطناعي ليس، ولن يكون، موضوعًا مستقلًا، إذ سيؤثر على كلّ جانب من جوانب حياتنا. وبحسب ما قاله أحد كبار المسؤولين في الإمارات العربية المتحدة، سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي علينا مشابهًا لتأثير اختراع العجلة، حيث يوجد الكثير من التطبيقات المستخدمة بالفعل والكثير من المجالات غير المُستكشفة بعد، بدءًا من علاج السرطان واستكشاف الفضاء وصولًا إلى فهم العقل البشري بشكل أفضل. فعلى الرغم من كلّ المعرفة التي نمتلكها، ما زالت نسبة فهمنا له محدودةً جدًا.
ويتعيّن علينا هنا مناقشة موضوع الذكاء الاصطناعي بعيدًا عن سياق النقاش التقليدي بشأن "رأس المال مقابل اليد العاملة"، وذلك بحسب ما شرحه لي أحد كبار المسؤولين في شركة تُعنى بمجال التكنولوجيا. كما يتوجّب علينا تقبل فكرة أن الوظائف المستقبلية ستتأثّر كثيرًا والانتقال للتركيز على ما هو أبعد من ذلك، أي الصورة الأكبر لما يعنيه الذكاء الاصطناعي للبشرية جمعاء ولمنطقتنا بشكل خاص.
ويبدو حاليًا أننا، كعرب، لا سيما دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، في موقع جيد يسمح لنا أن نكون في صلب ثورة الذكاء الاصطناعي. ونتمتّع، في هذا السياق، بثلاث ميزات تنافسية، وهي: شعوب شابة ومثققة ومنفتحة على العالم، وموارد هائلة يمكن استخدامها، بالإضافة إلى حكومات تعتبر هذا الموضوع أولويةً. فقد عيّنت الإمارات العربية المتحدة أوّل وزير للذكاء الاصطناعي في العالم، وكثيراً ما يتحدّث المسؤولون في السعودية عن الحاجة إلى تأدية دور ريادي في مجال التكنولوجيا. وتُعتبر هذه المسألة أولويةً لأنهم يدركون أن من يتقن هذه التكنولوجيا سيتمتّع بأفضلية لما تبقّى من القرن.
في الواقع، قال أحد كبار المسؤولين، خلال مؤتمر صحافي خاص عُقد العام الماضي على هامش القمة السابقة، إن المنافسة بين الدول وتعاونها لن يرتكز على المسائل الجيوسياسيّة بعد الآن، بل على المسائل التكنوسياسيّة. ويُشكّل الصراع على تكنولوجيا الجيل الخامس خير مثال على ذلك، بينما تعتبر حرب المعلومات مثالًا آخر.
وفي الكلمة الافتتاحية التي ألقاها يوم الاثنين، أعطى وزير شؤون مجلس الوزراء الإماراتي محمد القرقاوي الجمهور لمحةً عمّا حقّقه الذكاء الاصطناعي بالفعل خلال عام واحد فقط. فقد تضاعفت قدرته على التعلم ألف مرّة مثلًا وسيستمّر في تقدّمه على هذا المسار بشكل مُطّرد. ومع ذلك، يوجد جانب آخر لهذا التقدّم، حيث تضاعف عدد الصور والفيديوهات المزيّفة باستخدام تقنيّة "التزييف العميق" (Deep Fake) ثلاث مرّات خلال عام واحد، مع نشر 500 ألف صورة وشريط فيديو مزيّف على وسائل التواصل الاجتماعي في العام الماضي. وسيتضاعف عدد هذه الصور والفيديوهات أيضًا.
أمّا في عالم الصحافة، لعلّ أكثر ما يدلّ على مصير نماذج وسائل الإعلام التقليدية هو أن المقابلة التي أجراها مقدم البرامج الحوارية الأميركي البارز تاكر كارلسون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حصدت أكثر من 150 مليون مشاهدة عبر الإنترنت، وذلك بعد نشره المقابلة على قناته الخاصة وتحت علامته التجارية الخاصة، كونه لم يعد يعمل في قناة إعلامية تقليدية.
إن كان هناك ما يُقال عن هذا الموضوع، فأعتقد أننا بأمسّ الحاجة إلى تغطية صحافيّة مهنيّة عالية الجودة. ومع ذلك، بات واضحًا في الحقيقة من خلال الخيارات المتوفّرة، بدءًا من المحتوى المجاني المدعوم بالإعلانات وصولًا إلى توفّر المحتوى لقاء دفع اشتراك فقط، إلى جانب كلّ الخيارات الأخرى، أننا لم نعتمد بعد نموذج الأعمال الأنسب للمستقبل.
سيكون هناك مقال آخر حول هذا الموضوع الأسبوع المقبل بعد تغطيتي للمنتدى السعودي للإعلام، حيث سيُناقش هذا الموضوع أيضًا في العاصمة السعودية.