الحريرية الجديدة... من

الرئيس سعد الحريري في بيروت (تصوير: عباس سلمان)

أسبوع الرئيس سعد الحريري في بيروت "ملأ الدنيا وشَغَل الناس"، وشكّل مادّة دسمة للقراءات والتوقعات التي يُنتظر أن يخبو وهجها مع عودته إلى مقر صمته أو لاصمته السياسي في دولة الإمارات.

هذا الصخب السياسي والإعلامي والشعبي انتهى إلى خلاصات كثيرة تراوحت بين خيبة استمرار الإنكفاء في "الغيبة الصغرى"، وآمال الحضور المؤجّل حتى توافر ظروف "العودة الكبرى".

ففي ظل الحضانة الشعبية الإستثنائية والإستقبالات واللقاءات والإتصالات السياسية الكثيفة والأحاديث الإعلامية المتنوعة، هناك الكثير من الكلام الكلاسيكي عن "الإعتدال"، والوفاق، وأولوية الإنتخابات الرئاسية، وحفظ الصداقات المتوازنة خصوصًا بين المرشّحَين سليمان فرنجية وجهاد أزعور، وضرورة وقف الحرب في غزة وجنوب لبنان.

لكنّ مسألتين غير تقليديّتَين وردتا على لسان الحريري لم تأخذا حقّهما من الإهتمام والتحليل، هما "ربط النزاع" مع سلاح "حزب الله" و"دفعه الثمن" عن اغتيال صاحب الذكرى الشهيد رفيق الحريري ورفاقه.

لم يكن تفصيلًا قوله إن الجهة التي نفّذت الإغتيال، مُسمِّيًا "الحزب" بوضوح، بدأت تدفع الثمن سواءٌ في حرب سوريا أو الآن (ربما قصد الانخراط في حرب الجنوب)، مع إشارة عابرة وسريعة إلى "ربط النزاع" الذي كان قائمًا مع سلاحه. والواضح أنه، وللمرة الأولى، جمع بين "الربط" و"الثمن"، خلافًا لما كان عليه الوضع خلال سنوات تولّيه رئاسة الحكومة، حيث كان "ربط النزاع" مع هذا السلاح غير مشروط، وغير مربوط بثمن، بل مفتوح على الزمن.

الرئيس سعد الحريري (تصوير: عباس سلمان)

ولعلّ الرئيس سعد الحريري أجرى مراجعة لمعاناة "حُكمه" تحت ضغط هذا الربط.

ففي حين كان يأمل بمرحلة استقرار وازدهار عبر تجميد تأثير السلاح على الدولة والمؤسسات ومبادلته التساهل بالتسهيل، تبيّن له أن "الحزب" استغلّ شعار "ربط النزاع" والتسامح في قضية الإغتيال لمضاعفة استباحته القرار الشرعي من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة والسياسة الخارجية والقرار الإستراتيجي والأجهزة وصولًا إلى القضاء، خصوصًا بعد إسقاط الحكومة بحركة "القمصان السود" ٢٠١١، وتكبيل الحكومات اللاحقة وصولًا إلى اليوم بتفرّده في قرار الحرب وتوريط لبنان في مصير مجهول ودفع أثمان ثقيلة من دماء أهله وأرزاقهم.

وقد تكون النتائج السلبية لهذا "التسامح" مع السلاح، تحت شعار الإعتدال ومنع الفتنة، أهم الأسباب التي أحبطت الحريري ودفعته لاعتزال السياسة ولو بصورة مرحلية، وتسبّبت له بإشكالات داخلية وعربية يسعى الآن إلى تصفيرها، ومن البديهي أن تندرج وقائع تحرّكه السياسي والرسائل التي أطلقها في سياق هذا التصفير.

وليس تفصيلًا أيضًا أن يعجّ "بيت الوسط" ومعه الضريح بكلّ الأطراف السياسية بإستثناء طرف أساسي هو "حزب الله"، ولم يصدر أي خبر أو معلومة عن اتصال بعيد عن الأضواء على الأقلّ، بسبب الحرج الكبير لدى "الحزب" في المناسبة. وقد تجلّى هذا الحرج في غياب أي ذكْر أو إشارة من السيد حسن نصرالله خلال خطابه الأخير منذ يومَين، إلى الذكرى والمناسبة، وإلى اتهام الحريري الإبن ل"الحزب" بجريمة الاغتيال، بصورة مباشرة وعلنية وحاسمة.

لكن، أبعد من المناسبة، هناك ما يشي بتوجّه جديد لدى الحريري و"تيّار المستقبل" نحو الخروج من نظرية "ربط النزاع"، طبعًا ليس إلى فتنة أو حرب أهلية، بل نحو السعي السياسي والدبلوماسي إلى رفع وصاية السلاح عن الدولة، مع الإصرار على نهج الاعتدال والوفاق ودرء الفتنة. فلم تعُد ممكنة إعادة إنتاج تجارب السنوات الـ١٨ الأخيرة، وتحديدًا السنوات الأربع (٢٠١٦ - ٢٠٢٠) المريرة، بما فيها من عرقلة وتعطيل وهيمنة، بحيث تحوّل شعار "ربط النزاع" إلى غطاء لمصادرة الشرعية وتجويف الصلاحيات والمؤسّسات. 

ولا شكّ في أن المؤتمن على رؤية رفيق الحريري ومشروعه ودمائه يُدرك جسامة هذه المسؤولية، وأن سبب الاغتيال لم يكن فقط اعتدال رفيق الحريري ووسطيّته، بل مشروعه السيادي لتحرير لبنان من الوصايات، خارجية كانت أو داخلية.

لقد تمّ اغتياله بعدما وضع ثقله مع سائر مكوّنات الوطن، من بكركي إلى المختارة وقرنة شهوان واليسار الجديد والنُخب الشيعيّة الطليعية الحرّة،  لبناء دولة مستقلّة سيّدة مزدهرة ومعاصرة، ذات علاقات جيّدة مع العرب والعالم، غير ملحَقة بمحور، ودائمًا تحت عنوان "لبنان أوّلًا".

ومع مرور الوقت، يمكن القول إن الحريري المؤسِّس كان نموذجًا متقدّمًا في التفكير والعمل للنهضة التحديثية اللبنانية والعربية التي نشهد الآن فصولها الناجحة والمميّزة في الخليج العربي، خصوصًا في المملكة العربية السعودية ودولتَي الإمارات وقطر.

ولا شكّ أيضًا في أن الحضانة الشعبية الكبرى كانت ولا تزال التعبير الحيّ عن إرث الشهيد الذي قتله مَن لا يعترف بالاعتدال والسلام والحداثة و"ربط النزاع"، فالوجدان السنّي الوطني، واللبناني عمومًا، لا يزال يهزّه زلزال ١٤ شباط ٢٠٠٥ وارتداداته في الإغتيالات اللاحقة.

وفوق ذلك، لا بدّ من أن يكون الرئيس سعد الحريري قرأ ويقرأ جيّدًا متغيّرات المنطقة والتوازنات والأحجام الجديدة نتيجة حرب غزة والجنوب و"المشاغلات" الأخرى، وما سبقها من تفاهمات واتفاقات وتطبيع وتقليص نفوذ، وما سيعقبها من تحجيم وتقليم، وأن "حزب الله" سيكون في وضع مختلف، أخفّ وزناً، كمّاً ونوعاً، عمّا كان عليه قبلها، فلا تعود معه حاجة إلى أي "ربط نزاع" جديد، بل إلى توازن سياسي ووطني وتعاقد خلّاق بين المكوّنات، خارج معادلة القوي والضعيف، أو المسلّح والأعزل، أو لعبة العدد.

ويبقى أن أسبوعه الحافل في بيروت شكّل اختبارًا واضحًا للحريرية الجديدة، وستُبيّن الأسابيع المقبلة ما لهذا الاختبار وما عليه.

يقرأون الآن