ظلت منطقة البحر الأحمر هدفاً للقوى الكبرى منذ عقود بسبب الموقع الجغرافي الاستثنائي، وقد حاولت الاستثمار في ذلك على المستويين السياسي والعسكري عبر إقامة قواعد عسكرية لحماية سفن بلادها من أعمال القرصنة، وحماية التجارة الدولية وناقلات النفط، وهو منذ زمن طويل أهم الممرات الدولية بسبب ربطه بين الشرق والغرب، وعلى ضفافه فشلت محاولات استعمارية كبرى كان أشهرها محاولة بونابرت اجتياح مصر في 1798م، وبعدها أعيدت فكرة القناة المتخيلة في عهد الفراعنة لتصبح واقعاً على يد جان باتيستلوبير، ولاحقاً افتُتحت قناة السويس في 1867م، وتقاسمها البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون إلى أن تفكك المشروع بعد الحرب العالمية الأولى، ثم عادت الممرات البحرية في الشرق الأوسط على أوجه صعودها مجدداً بعد استحواذ قناة السويس على العمليات التجارية برأس الرجاء الصالح، ثم جاء الصعود العظيم مع اكتشاف النفط ونهضة المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج ليصبح الشريان الأهم لحركة تجارة العالم.
وبإزاء محاولات الغرب ظهرت مع المشاريع التوسعية لتركيا وإيران مشاريع موازية حيث حاولت إيران وتركيا الدخول إلى البحر الأحمر عبر الصومال والسودان وبجزء من التبني الآيديولوجي من قبل طهران للحوثيين الذي استحال بسبب فشل المجتمع الدولي في التعامل مع المخاوف والتحذيرات الصارمة التي أطلقتها السعودية، وطالبت الرياض في أكثر من مرة بالاستماع جيداً إلى مقاربتها لأمن الخليج والمنطقة والتحديات التي خلقتها سياسات الإهمال الدولية.
واليوم، تحاول القوى الدولية بحسب ما جاء في الشرق الأوسط تكرار المقاربات الخاطئة بمقاربة أكثر خطورة لمعضلة أمن البحر الأحمر، وقد سبّبتها اليوم حالة إهمال أخرى وهي الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والتي يتخذها الحوثيون ذريعة لترحيل أزمة أكبر تتصل بإيران وإدارة الساحات، ولمحاولة التحشيد لأوراق تفاوضية وشعبوية، ولا يمكن حل ذلك من دون استراتيجية لمفهوم الأمن القومي البحري الخاص بالدول ذات العلاقة وعلى رأسها السعودية؛ لأنها المعنية بشكل أساسي بأمن البحر الأحمر أكثر من بقية الدول المطلة عليها، فهي تطل على الجزء الأكبر من الساحل، وهو شريان العالم، 12 بالمائة من التجارة العالمية و40 بالمائة من التجارة بين آسيا وأوروبا، إضافة إلى التموضع التاريخي والجغرافي والديني لما تشكله الموانئ السعودية وفي مقدمها بوابة الحرمين مدينة جدة، الذي لعب فترة الإسلام المبكر دوراً أساسياً في تشكيل العلاقة بين المدن المقدسة والعالم.
هناك محاولات اليوم لمقاربات منفردة خطرة تحتاج إلى الكثير من المراجعات والوقوف عندها بسبب تأثيرات سلوك القرصنة لميليشيات الحوثي، ورغم أن البعثة البحرية الجديدة للاتحاد الأوروبي في البحر الأحمر تحاول التعامل مع تداعيات وتحديات حالة عدم الاستقرار، وتقول في خطابها المعلن إنها تسعى للتنسيق مع اللاعبين الأساسيين في المنطقة، فإن إطلاق قوة "أسبيدس" جاء في اتجاه منفرد ومن زاوية القراءة السياسية من دون بذل أي محاولات لمعالجة أزمات المنطقة، ومنها العدوان الإسرائيلي الشرس على غزة ما قد يفاقم الأزمة، خصوصاً مع أسلوب الضربات السريعة المتفرقة للحوثيين أو مجرد الاكتفاء بالمواقف الدفاعية من دون استراتيجية أمنية طويلة الأمد تستند إلى دور أساسي للسعودية بوصفها اللاعب الأهم والفاعل الأكثر تأثيراً في المنطقة.
لا يمكن خلق حالة إجماع أمني في مسألة البحر الأحمر مع انقسام أخلاقي وسياسي حول العدوان على غزة، وتعميق حالة الانسداد لأي حل يحاول توسيع دائرة النظر، وتحويل المقاربات من ردات الفعل إلى الاستراتيجيات حول سؤال أساسي: ما مستقبل غزة والقضية الفلسطينية والملفات العالقة في أمن المنطقة؟
الاستراتيجية لأمن البحر الأحمر شأن إقليمي بالدرجة الأولى يعبر عن توازن القوى المطلة عليه والقريبة منها تتقدمها السعودية ثم مصر والأردن مع الأخذ بالحسبان الأزمة اليمنية في منظورها الأشمل المتصلة بمفاهمات الحل الدائم، وهي تتجاوز مسألة الحوثيين.
الاهتمام بأمن البحر الأحمر في الاستراتيجية الأمنية السعودية ليس وليد اليوم، فالتفكير في أهميته بدأ مبكراً قبل 67 سنة ففي عام 1956م عقدت المملكة العربية السعودية "ميثاق جدة" لإقامة نظام أمن مشترك في البحر الأحمر، وتوالت الاتفاقات عقب ذلك مع الدول المطلة عليه، وتدخلت السعودية بثقلها في فترات متعددة من الأزمات المتصلة بالبحر الأحمر أو الأطماع والمشاريع التوسعية من الصراع الإثيوبي - الإريتري والسوداني والأطماع والتحركات الإسرائيلية والتركية والإيرانية، كل وفق قدرته على استمالة الدول التي تقع في القرن الأفريقي والتغلغل في نزاعاتها الأهلية.
أمن البحر الأحمر قضية مهمة ومعقدة لا يمكن أن يجري تناولها عبر ردات الفعل بسبب تداخل المصالح والتأثير الدولي، وضرورة المواءمة مع الفاعلين الرئيسيين وأي محاولة لمعالجات سطحية أو مقاربات خطرة ستزيد من عمق الأزمة.
الاستماع للرياض اليوم أمر ضروري وملح خصوصاً مع رؤيتها الطموحة والشمولية بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وقدرتها على خلق دبلوماسية بحرية ومقاربة جيوسياسية قادرة على إدارة هذه الأزمة استناداً إلى رؤية واستراتيجية وليس عبر ردود أفعال نيئة وعجلة قد لا تحمد عواقبها.