لم يكن موفقاً وقد جانب الصواب، رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية، شارل جبور، في الحصيلة التي انتهى إليها في مقالته، التي نشرت يوم الاثنين في 26 من شهر شباط/ فبراير، في صحيفة "الجمهورية"، والتي عنونها: "الحل بالدولتين في لبنان أيضاً". اذ قال في ختام مقالة مطولة: "من حق الشعوب اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية العيش وسط استقرار وازدهار. والتجربة في كل من لبنان والعراق واليمن تشير إلى انّه من الصعوبة بمكان أن تتراجع إيران عن استراتيجية تشكّل جزءاً من علّة وجودها ورؤيتها لدورها وصراعاتها. ولذلك، يبقى الحلّ الوحيد في الذهاب سريعاً إلى حلّ الدولتين بدءاً من لبنان، إما بالديبلوماسية وإما بالأمر الواقع".
سبق هذا الاستنتاج، عرض مسهب للسياسة التي ينتهجها نظام الملالي الإيراني في المنطقة، استناداً إلى معلومات ومعطيات ومواقف مؤكدة ومعتبرة ومعلنة. والتي تستند في حصيلتها -كما عرض وشرح- على استخدام ميليشيات وقوى عسكرية غير نظامية، في دول في المنطقة مرتبطة وتابعة لإيران من أجل مشاغلة الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، وذلك بهدف الدفاع عن مصالح إيران والضغط على الدول الغربية، وإن على حساب مصالح الدول العربية واستقرارها.
هذه المقالة بإشاراتها، تكشف من دون لبس، أن القوات اللبنانية تتحضر لإعلان موقف ما، ما زال في طور التشكل والتبلور والتحضير، بخصوص صيغة النظام في لبنان. فقد سبق أن جاهر رئيس القوات الدكتور سمير جعجع، إنه في حال تمكن حزب الله من إيصال مرشحه هذه المرة إلى رئاسة الجمهورية، فسيكون لنا موقف آخر، ويجب إعادة النظر في تركيبة الدولة اللبنانية الراهنة. وقد سبق أن جاهر مرة أخرى بالقول "الدولة هيك مش ماشية" و"مش ماشي الحال".
لا يمكن إخفاء وتجاهل أن قسماً كبيراً من الأصوات الشبابية وبعض المثقفين والنشطاء السياسيين ووسائل إعلام مدعومة وممولة من جهات غربية، وبعض الأكاديميين الداعين والمروجين لفكرة الفيدرالية والكانتونات في لبنان، إنما يدورون بالقرب ومن حول القوات اللبنانية بطريقة أو بأخرى.
ناهيك أن الأجواء لدى أغلبية ليست قليلة في البيئة المسيحية، باتت تعلن تبرمها من الصيغة والتركيبة السياسية السائدة والمسيطرة حالياً في لبنان. وخصوصاً إزاء الفشل المتراكم منذ صعود نفوذ وسيطرة إيران وقوى تابعة لها، يتقدمها حزب الله في لبنان تحديداً، في بعض دول المنطقة التي سبق لإيران أن تغنت بالسيطرة عليها ووصلتها من ضمن حبات في عنقود عقد دول الدولة الفارسية، القطب المتأهب للصعود، والطامح للتمدد والسيطرة والهيمنة على المنطقة ككل.
باختصار، هناك "ضيقة خلق" بل اختناق ظاهر، من السيطرة المتصاعدة لحزب الله و"الثنائي الوطني"، أمل وحزب الله، على الدولة اللبنانية والقرار في لبنان، من النواحي السياسية والأمنية.. ومستقبلاً الاقتصادية. وليس انخراط حزب الله في حرب المشاغلة في الجنوب بالتوازي مع حرب طوفان الأقصى في غزة، إلا آخر الحروب المفروضة على أغلب اللبنانيين، ومن دون استشارتهم أو الوقوف عند رغباتهم ومصالحهم.
صحيح أن التضامن مع الشعب الفلسطيني في نكبته الراهنة في لبنان، هو تضامن واسع. لكن الصحيح أيضاً، أن لبنان لم يعد في مقدوره أو بإمكانه تحمل حرب تديرها إيران، وتسيّرها في لبنان ولا تشارك فيها.
بات الانزعاج اللبناني عامة، والمسيحي على وجه الخصوص، في مراحل متقدمة، جراء انفراد إيران وحزب الله بالقرار اللبناني. وهذا ما بات يؤسس لحركات وطموحات انفصال وتفكير بالخلاص و"الهج" والهروب المتعجل من هذه السيطرة المتزايدة والقوية والخانقة في كل اتجاه.
وليس صدفة أن يظهر التبرم مؤخراً، من السيطرة المتنامية للخط الإيراني في لبنان، وتفرد حزب الله، على الثنائي، الانتهازي والوصولي الأكبر الجنرال المفدى، ميشال عون، وصهره النزق والشره للمساومة والابتزاز، جبران باسيل.
للإنصاف الموضوعي، لم يكن بالامكان لاتفاق الطائف ولصيغة الحكم الراهنة أن تُقر وترى النور، لو لم تقف إلى جانبه ثلاث شخصيات مارونية أساسية في ذلك الوقت من نهاية التسعينات. هم البطريرك الماروني كلي الوطنية والنباهة والرؤية الثاقبة الحكيمة، الراحل نصرالله بطرس صفير، ورئيس حزب الكتائب اللبنانية الراحل الدكتور جورج سعادة، وقائد القوات اللبنانية آنذاك الدكتور سمير جعجع من معزله آنذاك في غدراس.
ولو كان البطريرك صفير حياً يرزق الآن، لما سكت أو تردد في إشهار سيف الاعتراض والمعارضة وربما الثورة، إزاء ما يتعرض له القرار في لبنان من مصادرة واستحواذ.
لا يمكن الدفاع أو القبول، في أي شكل من الأشكال، بالتفرد المتزايد والمتنامي، الذي يتولاه ويقوده حزب الله ومحور الثامن من آذار على القرار في لبنان في العقدين الأخيرين.
في الحالة الراهنة، باتت الشكوى اللبنانية العامة، والمسيحية على وجه الخصوص، لها ما يبررها وزيادة في هذه الأيام.
صحيح أن حزب الله قد قاد وتولى هو تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، الذي فشل القرار الدولي 425 في تأمينه.
لكن الحزب الذي حل بنفوذه المتزايد منذ العام 2005 مكان النفوذ والسيطرة السورية، قد انتقل بعد تقديم التضحيات الكبرى الأساسية في الجنوب، إلى مد سيطرته على باقي نواحي القرار في لبنان.
المفارقة، أن القوات اللبنانية التي قدمت خدمات متقدمة وأساسية لإنعاش وصياغة القرار الوطني اللبناني، بتغطية إقرار اتفاق الطائف مع البطريرك صفير وحزب الكتائب، وحماية القرار الوطني اللبناني نهاية التسعينات، ومن ثم بعد ذلك حماية وصيانة مصالحة الجبل الحساسة والمهمة.. تبحث الآن وبشكل متعجل ومحموم وغير مدروس ومتوتر، عن حلول ربما تكون خرقاء ومجنونة للخروج من المآزق الراهن في لبنان.
من المؤكد أن النظام السياسي والسلطوي في لبنان، كما هو الآن، ليس منزلاً أو كاملاً أو مثالياً، وهو يحوي الكثير من الأخطاء والخطايا في التنفيذ ومن الثغر ونقاط الضعف القابلة للإصلاح والترميم.
كما من المؤكد أنه ليس من المستساغ أو المنطقي، أن نحكم بالطلاق المتعجل على عقد للزواج الذي تمت صياغته في الطائف، بين المسلمين والمسيحيين برعاية عربية ودولية صلبة وشاملة، بمجرد أن حاول أكثر من طرف حسود وعزول ومغرور، إفشال هذا العقد والسيطرة على مقدراته، بعد الإخلال بنقاط وبنود فيه عبر تطبيقه بشكل أخرق.
وإذا كانت القوات، وكما أشار الناطق باسمها شارل جبور في مقالته، تراهن على العربية السعودية في إقناع إيران للتخفيف من سلبيات ومخاطر مشروعاتها في المنطقة، فمن قال إن العربية السعودية ستوافق على طروح تتجه في لبنان وتقودها القوات اللبنانية، نحو حل الدولتين كما أعلن وقصد كاتب المقالة.
التجارب في الماضي، ومن المؤكد في الحاضر مع مؤشرات المستقبل، تشير إلى أن الخروج من صيغة الدولة الوطنية الواحدة التي أقرها الطائف، في لبنان، مع كل الأزمات والسلبيات والثغرات والعثرات، لن يؤدي إلا إلى طريق واحد أكيد ومؤكد، بوجود هذا الكم من النازحين والقاطنين واللاجئين، هو طريق التفكك والاندثار الوطني الذي لن تكون من بعده قيامة.
المدن