كانت الآمال توحي بأن مسار الكويت كدولة عضو محترم في الأمم المتحدة، لاعتداله وعقلانية سلوكه وسخاء مساهمته ورقة دبلوماسيته، وجمع هذه التقاسيم الجميلة في كيان واحد، فمن المؤكد سيحمل الكويت إلى الاصطفاف مع مجموعة المستنيرين التي تتمتع بمكانة في الأمم المتحدة، ليس فقط لمواقفها داخل المنظمة وانسجامها مع مبادئ الميثاق، وإنما لأنها توفر بيئة تغري المنظمة لاختيار كفاءات بين أبنائها لمسببات كثيرة، لعل أهمها التناغم مع القيم العالية التي يجسدها الميثاق ووجود اللياقة الفكرية والسياسية لشغل الوظائف الحساسة التي تتحملها المنظمة، لاسيما في البقع الساخنة، مثل قبرص ولبنان واليمن ومشاكل أفريقيا وبعض مناطق آسيا، وتبرز المجموعة الاسكندنافية كممول للمؤهلات التي تنتظرها المنظمة، كما يوجد عدد كبير من مواطنيها في تولي مسؤوليات ذات حساسية معينة، ومع تزايد الأعباء التي تقوم بها المنظمة امتدت ساحة الاختيار إلى دول أخرى في أمريكا الجنوبية وآسيا، وحتى أفريقيا صار لها نصيب لأنها نجحت في تخريج عدد من مواطنيها مناسبين لتولي الملفات الحساسة، التي تستدعي التدقيق في الجنسية والحيادية ومدى الدعم الذي تقدمه الدولة لمن تختاره الأمم المتحدة من مواطنيها.
كنت سفيراً للكويت في الأمم المتحدة من 1971–1981، عشر سنوات كانت آمالي أن يخرج من بين المواطنين الكويتيين من يمكن لنا طرح اسمه بين المرشحين، خاصة في الملفات الاقتصادية والإعلامية، وكانت الكويت تتزين باستقرار سياسي وارتياح اجتماعي وتفاؤل اقتصادي، مع نظرة مستقبلية تعبر عن عزم للوصول إلى ما يرضي الجميع من أبنائها.
كنت أرى قربها من الالتحاق بدول الاستنارة في استقرارها وفي انفتاحها السياسي وحرية مواطنيها، الذين يتمتعون بحقوق سياسية أكدها الدستور، فضلاً عن الحقوق المدنية التي ينعم بها كل مواطني مجلس التعاون، بالإضافة إلى ما لديها من خريجين من جامعات عالمية مشهورة في جميع التخصصات.
كانت الكويت تملك تجمعا تجاريا سياسيا يتمتع بثقة جميع من تولى السلطة، شيد جسوراً قوية مع أصحاب السلطة ونسق معهم، لاسيما خلال الأزمات التي شهدتها الكويت، خاصة إذا تسبب في خلق هذه الأزمات أطماع دول الإقليم، كانت هذه الكتلة التجارية التي تدير غرفة التجارة والصناعة، تملك خبرة سياسية جمعتها من متابعة للشأن الداخلي ومن رصد للأخبار الإقليمية والعالمية، كانت تملك مقاماً خاصة في الصالون السياسي الكويتي تتمتع فيه بثقة الحاكم وبقناعته في إخلاصها ونظافة وطنيتها.
أدت هذه المجموعة التجارية واجباً وطنياً فريداً في حواراتها مع أمير الدولة، فتح أبواب الكويت للتطور، ليس في التجارة والاقتصاد، وإنما أيضاً في السياسة وفي التفاهم مع الشيخ عبدالله السالم لوضع دستور ملائم في مبادئه وفي أهدافه لجميع طوائف الكويت، يضمن الحرية للمواطن ويهيئ العدالة عبر قضاء مستقل، ويضمن حق التعبير، كلاماً وتوثيقاً، ويحقق له حق الاختيار لمن يمثله في البرلمان ويتكفل بتعليمه مجاناً، ويؤمن احتياجاته اجتماعياً، وصون عافيته صحياً، وكل ذلك يأتي من خزينة الدولة مع التأكيد بإعفائه من الضرائب..
ومن هذا التطور، تحولت الكويت من إمارة كفاح ومخاطر إلى حديقة ريعية، كل شيء فيها يأتي مجاناً ومن خزائن الدولة، والأهم بقناعة صادقة من صاحب القرار سمو أمير البلاد.
بهذه الروح التي تسيدت المناخ السياسي في الكويت في السنوات الأولى للاستقلال صادق المرحوم الشيخ عبدالله السالم على الدستور بعد مناقشات من أعضاء المجلس التأسيسي الذي تم انتخابه لدراسة وثيقة الدستور المقترح وسط اطمئنان الأمير على انسجام الوثيقة التاريخية مع حقائق الكويت، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومنها انطلقت الحياة البرلمانية ولعبت هذه الكتلة دوراً مهدئاً للتوترات، باحثة عن اعتدال في التعبير، ومؤكدة على الأولوية للملفات التي تمس المجتمع وتتعامل مع طموحاته، وفوق ذلك، حافظت على جسورها وحواراتها مع أمير الدولة.
وكانت المسيرة في سنواتها الأولى واعدة في اختياراتها، وعاقلة في مفرداتها، مع ارتياح جماعي للاتزان البرلماني، يتولد منه اطئمنان بسلامة المسيرة.
كنت في نيويورك، مثل غيري، أتابع مع بداية المؤشرات بأن البرلمان الكويتي ليس محصناً من عوار الخلافات بين الأعضاء، وأن القياديين للمجموعة التي رافقت الحكام مع بداية عصر الشيخ أحمد الجابر ومتواصلة في تواصلها مع الشيخ عبدالله السالم تتعرض لمواجهات، جاء بعضها من تباين في الاجتهادات، وجاء الكثير منها من تصدعات داخل القاعة، نتجت من اختلاف في الأولويات والمصالح، وزادت سخونتها، لاسيما في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حيث تعطلت الحياة النيابية عام 1976.
قرأت ما كتبه السيد محمد جاسم الصقر، في صحيفة الجريدة، يوم الاثنين الماضي، موجهاً محتويات المقال إلى أصحاب القرار، مؤيداً خطواتهم وضاغطاً على التأكيد بأن الاستقرار والتطور مرتبطان بالديموقراطية، ومجدداً التذكير بحتمية حضورها.
وهنا لا مفر من الاعتراف بأن المجموعة التي كانت حول المرحوم عبدالعزيز الصقر، سواء من داخل البرلمان أو خارجه، ساهمت كثيراً باستقرار المسيرة البرلمانية، وأن المسيرة بدلاً من لمعانها تأثرت بانسحاب هذا التجمع المؤثر في اعتداله والواصل في شبكة الترابط السياسي والاجتماعي، والحريص على التفاهم النيابي، وبدلاً من تصاعد حيوية التجربة دخلت في مرحلة الاهتزاز، لأن البرلمان فقد الدور المحاصر للأزمات والمدبر لفنون التوافقات، وربما تبرز مجموعة بوحي من استذكار الدور الفاعل والعاقل الذي كان يؤديه المرحوم الشيخ عبدالعزيز الصقر.
ومع التجربة القادمة لابد من أن نقتدي بنهج العقلاء في احترامهم للديموقراطية ولوقار الكلمة وسعيهم لصون لمعان الكويت، فأتصور مسؤوليات السيد محمد الصقر في هذه المرحلة، جمع الشظايا المتبقية من تراث تلك المجموعة التاريخية المؤثرة، والاقتداء بدروبها في تعظيم الاعتدال وتثبيت الأسس التي تقف عليها الحياة الديموقراطية في الكويت، فهي بحاجة ماسة إلى استحضار كلمة الرواد التي جسدها عبدالعزيز الصقر وجماعته.
فقيد الدبلوماسية.. السفير أحمد النقيب
حزنت كثيراً لوفاة الصديق الذرب السفير أحمد النقيب، الذي وافته المنية يوم الأحمد الماضي عن عمر تميز بعطاءات من الفقيد في العمل الإداري والمسار التجاري، والعيش في الدبلوماسية الأنيقة، خلقاً وسلوكاً، حيث تنقل بين أفريقيا وباكستان ولندن ممثلاً لدولة الكويت.
عرفته انساناً رائعاً في مزاياه، متعالياً على الصغائر، محباً للجميع، نظيفاً في السلوك ونقياً في الضمير، عاش متناغماً مع الحياة، داعياً للخير، سخياً مع المستحق وفرحاً للمجتهد، ومرتفعاً عن مسار الصغائر.
انقطع عن الأصدقاء مع تصاعد الآلالم، وتابعت حالته بالتواصل مع ابنه عبدالوهاب، وظل مقاوماً حتى اختاره الله، تاركاً أجمل المعاني في صدق الوفاء وجمال السخاء...
أسكنه الله واسع جنانه مع الطيبين، وألهم أهله ومعارفه الصبر والسلوان...
و«كل نفس ذائقة الموت»...