واجهت الصحافة اللبنانية خلال الأسبوع الماضي، حدثاً حزيناً مزعجاً ومؤسفاً، في الوقت عينه. وهو الذي تمثل بإقفال جريدة "نداء الوطن"، بعد صدور استمر لنحو خمس سنوات، كانت فيها هذه الصحيفة منبراً متنوعاً مختلفاً وجديداً وشاباً، حمل نبرة تمرد ورفض مختلفة ومميزة نوعاً ما عن باقي الصحف الصادرة.
رئيس تحريرها الزميل بشارة شربل رد الأمر إلى "تعثر مفاجئ أشبه بعملية اغتيال"!. صحيح ان إقفال هذه الصحيفة، يأتي في سياق انحداري عام للصحف ووسائل الإعلام التقليدية، في لبنان والعالم، وخصوصاً بعد سلسلة من أحداث إقفال وتوقف متعددة شهدتها الصحافة اللبنانية، طالت صحف عريقة، مثّلت أيضاً أحداثاً مزعجة وصادمة ومؤسفة، اقتربت من المصيبة الصحافية، كإقفال وتوقف "السفير" و"الأنوار" و"المستقبل" و"الديلي ستار".. وغيرها، لأسباب متعددة، أبرزها الأسباب المادية، إلا أن إقفال "نداء الوطن" حمل مؤشرات ومعالم مختلفة، عن أسباب إقفال صحف سابقة. والتي كانت بأغلبها بأبعاد مادية، نتيجة نقص في التمويل، في عز تصاعد أزمة الصحف الورقية ومبيعاتها وإعلاناتها المنخفضة. لكن إقفال "نداء الوطن" حمل إشارات ومعان مختلفة عن الإقفالات السابقة، إضافة إلى ما يحمله إقفال صحيفة من مآس وضربات طالت زملاء، باتوا اليوم من دون عمل أو مدخول مادي، في ظل هذه الأزمة الاقتصادية والمادية الاستثنائية والماحقة.
كما هو معروف، فإن مشروع إصدار جريدة "نداء الوطن"، ظهر نتيجة طموح ورغبة في إطلاق وصناعة مشروع سياسي، حمله الناشط السياسي ورجل الأعمال ميشال مكتف. والذي كان يرغب ببناء وصناعة دور وموقع سياسي له. ولأنه كان منحازاً إلى الخط السياسي الذي مثله فسطاط الرابع عشر من آذار، في وجه فسطاط الثامن من آذار. فإن إطلاق صحيفة كان يحمل هذا التوجه العام، إضافة إلى رغبة أو نزعة نقدية وإصلاحية بسيطة وعامة، ضمن الخط نفسه. وقد أتت حادثة الوفاة الصادمة لناشر الجريدة، خلال ممارسته رياضة التزلج وهو في مقتبل العمر، لتوجه ضربة قوية وصاعقة للمشروع نفسه، باعتبار أن صاحب المشروع قد توفي وغاب عن الوجود.
الذي جرى بعد ذلك، أن ورثة الناشط مكتّف تكفلوا إلى الأسبوع الماضي، في الاستمرار بتمويل صدور الصحيفة، التي تحولت حسب إدارتها ومقالات كتابها الأساسيين، إلى صحيفة قضية عامة، تدافع عن الحرية والتمرد وحق الانتقاد وحقوق المودعين المسلوبين والمواطنين المنكوبين والمصابين بانفجار مرفأ بيروت، وفي وجه المختلسين واللصوص بأعدادهم الكبيرة، والسماسرة والمرابين أو ما اصطلح على تسميتهم بـ"المنظومة". وقد كان واضحاً، تبني وانحياز الصحيفة إلى جانب خط انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وهي التي أسماها البعض بـ"الهبة الشعبية الشبابية" أو "القومة"، حسب لغة وتعابير القرن التاسع عشر، فيما يميل بعض المغالين المتحمسين إلى اعتبارها ثورة لبنانية شاملة!
عملياً، حملت الصحيفة ودافعت عن الخط والتوجه العام لقوى الرابع عشر من آذار، أو ما يسمى بالخط "السيادي الاستقلالي"، وأضافت إليه كل القضايا التي استجدت بعد غزوة السابع من أيار 2008، وما تبعها عبر اتفاق الدوحة، وزيادة تعملق وتمدد سيطرة حزب الله و"الثنائي الوطني" على الأوضاع في لبنان. فميزت نفسها عن ما تبقى من الصحف الأخرى، مع هامش كبير من الاستقلالية الانتقادية، تجاه بعض أطراف أو قوى 14 آذار سابقاً، مع تجنب انتقاد أطراف منها، خصوصاً "القوات اللبنانية".
عملياً، كانت الصحيفة، بادارتها وكتّابها، موئلاً لحرية الرأي والنقد والانتقاد، بتطلعات لبنانية مدنية استقلالية، قريبة من ما يسمى يسار الوسط، مع روح شبابية متنوعة متعددة. وهنا مكمن الخسارة حيث غابت هذه الأصوات، وتلقت هذه الفئة الحيوية والضرورية -التي كانت تعبّر عنها الصحيفة- بعد توقفها ضربة قوية، وكبيرة وموجعة، أبعدتها عن الساحة الإعلامية والسياسية التي تحتاجها وتحتاج نكهتها وحساسيتها، إزاء تغول واستشراس ثقافة القوة والخروج على القانون علناً، والاستقواء والعنف واحتقار ثقافة الالتزام بالقانون السائدة والمنتشرة، إزاء قضايا متعددة، ولبنان بحاجة إليها.
كشفت واقعة إقفال الصحيفة اللطيفة، عن جانب من قصور وعجز وفشل سياسي متنام، لكل ما يسمى قوى المعارضة في لبنان، التي تغنت بالجريدة وخطها وتوجهاتها، لكنها تركتها تقع وتتحطم من دون قدرة على إنقاذها، أو الإبقاء عليها مساحة للتميز والاعتراض بوجه تنامي سيطرة الخط السياسي والإعلامي الملتصق بإيران وسوريا، أو إذا جاز القول إعلام "اليسار التخلفي" الرجعي الملتحق بأساطين وسلاطين القتلة، وفرق الاغتيال والتصفية وتمجيد فعل وتأثير البراميل المتفجرة.
لو أن ما يسمى قوى معارضة "سيادية استقلالية"، لديها من حيل أو قوة أو فاعلية وتدبير، لنجحت في إيجاد صيغة تعاونية بسيطة لاستمرار إصدار الصحيفة، لكي تبقي على "الستر مغطى"، وهي لم تكن بحاجة لأموال ورساميل طائلة، بل إلى حفنة من الدولارات، من أجل ستر عورة قوى تقول كلامياً بالمواجهة وعملياً بالاندثار وبالاندحار والتفكك.
المدن