جرعة السمّ التي تخشاها حماس

لينين في الحرب العالمية الأولى عندما ذهب إلى اتفاقية "برست ليتوفسك" التي تم توقيعها عام 1918 وصفها بالذل والعار وتجرع السم، وذلك بعدما فشل البلاشفة الروس في البقاء في لعبة صراع المكاسب واستنفذوا هناك طاقة بشرية هائلة من دون جدوى، وإيران الثورة، أيضاً بعد ثماني سنوات من الحرب العراقية الإيرانية، قال الخميني عند وقف إطلاق النار إنه يتجرع السم، وذلك أمام حجم الشعارات الكبيرة التي رفعها عند انطلاق شرارة الحرب، وحركة حماس بعد السابع من أكتوبر رفعت خطابها فوق الممكن البشري، غير أن تسلسل الحدث الزمني لم يوافق حقائق المادة المرجوة. وثمة سؤال هنا لا بد منه:

ما هو الرابط بين هذه المشاهد الثلاثة، ثورة البلاشفة والثورة الإيرانية والجناح العسكري لحركة الإخوان- حماس، والإجابة بسيطة، لأن هذه المشاهد الثلاثة هي (نظريات المئة سنة الأخيرة الأكثر إشكالية) على المستوى الدولي والمجتمعي، وحتى تفاصيل الحياة اليومية لملايين البشر، ولا تزال.

في الجانب الأقرب للتوصيف في المعادلة أنه كانت لروسيا وإيران ثمة جغرافيا هائلة تقبع خلف ظهر الجيوش على محاور المعركة، وكانت الدولتان باقيتين بكل ما فيهما من مكونات، بينما في الحالة الحمساوية لم تكن هناك جغرافيا، ولا كيانية يمكنها الاستناد عليها، فإذا كانت الجغرافيا في غزة صغيرة جداً، وإذا كان الشعب يسافر متنقلاً في هذه البقعة المحدودة بلا حقائب ولا أي من أدوات السفر أو حتى البقاء.

بالتالي حماس والتي ترى في نفسها ممثلة للشارع السني في المعادلة ترى أن بقاءها ضرورة حتمية لا مفر ولا يهمها إطالة أمد الحرب رغم الخسارة البشرية الفادحة، لهذا كانت تذهب بشكل طبيعي نحو الانحياز لمصلحة الحركة أولاً والبحث عن مقومات بقائها على حساب حياة المدنيين، وهو ما عبر عنه خالد مشعل في خطابه في مركز الزيتونة، عندما اعتبر ذلك ثمن الحرب. فالاستجابة الحمساوية لمصلحة المدنيين في غزة والذهاب نحو مفاوضات تضمن سلامة المدنيين لا سلامة الحركة ومستقبلها تبقى السمّ الحقيقي الذي سوف تتجرعه حماس فيما لو انحازت إليهم، فكيف لحركة تعتبر نفسها آخر قلاع الأمة أن تستجيب لمصلحة المدنيين إذا كانت ترى في ذلك خروجها من الجغرافيا الصغيرة نحو العدم وهذا هو السمّ الذي رفضته حماس.

السم الثاني الذي تخشاه الحركة هو البنية الداخلية خصوصاً في مسار القيادة السياسية والعسكرية، والتي تعرضت لاهتزازات عنيفة منذ نشأة الحركة، فالانقسام بين معسكري حماس الداخل والخارج قديم يعود لخلاف حاد بين القيادي محمود الزهار والمكتب السياسي للحركة في الخارج، وهو خلاف موجود أصلاً حتى في داخل المكتب السياسي في الخارج من خلال صراع بين تياري موسى أبو مرزوق وخالد مشعل، فالحدث اليومي في مكاتب حماس بدمشق كان يروي بوضوح قصة عالمين منفصلين لا يلتقيان سوى في المؤتمرات السياسية والخطاب العام، ناهيك عن تفاصيل الصراعات العميقة داخل غزة، ما بعد 2007 وحجم الاختراقات الإسرائيلية في حركة حماس، فقد خسرت حماس سعيد صيام والذي كان وزيرا للداخلية في يناير 2009 حيث وجهت حماس تهمة الخيانة لعضو في اللجنة الأمنية العليا للحركة، ومن ثم أعدمت الناطق الرسمي باسمها أيمن طه بتهمة العمالة، بينما أشارت مصادر معاكسة إلى أن أيمن طه كان في دائرة الصراع ما أدى إلى مقتله، ثم فرار قائد وحدة الضفادع إلى إسرائيل في تموز 2020 ثم فرار قائد وحدة صواريخ خاصة في حماس إلى إسرائيل بنفس السنة، وبحسب إندبندنت أنه تعرض للتعذيب في سجون حماس قبل فراره وغير ذلك قضايا كثيرة شائكة من الصعب الوصول إلى حقائق واضحة فيها، أمام نفي للعائلات للاتهامات والأسباب والمسببات، ثم ما أشيع من خلاف حماس الداخل والخارج، وغياب السنوار عن المشهد أمام محاولات المكتب السياسي للحركة من التبرؤ من السابع من أكتوبر بادعاء عدم العلم به، ثم العودة إلى تمجيده، وهو ما يبقي الاضطراب واضحاً على المشهد السياسي الذي يحمل دائماً خطابات متناقضة.

يأتي ذلك أمام إعلان إسرائيل عن تواصلها مع عائلات فلسطينية بشأن إدارة مدينة في القسم المحاصر شمال غزة، وهو ما يزيد من ملف الرعب لدى الحركة، عن احتمالية مشاركة فعليه لمن هم محسوبون عليها في تلك الإدارة خصوصاً مع التقارير الواردة من شمال غزة أن حالة اليأس في الشمال بلغت ذروتها، خوصاً مع المعلن دولياً على الأقل أن دور حماس السياسي في غزة لن يكون متاحاً في اليوم التالي لنهاية الحرب.

بالتالي إن مسألة الإدارة الجزئية في شمال غزة من وجهة نظر إسرائيل هي ممكنة في مرحلة مؤقتة لا يعترف بها المجتمع الدولي، الذي يعتبر السلطة الفلسطينية جزءًا من أي اتفاق شامل، والحديث عن هذه الإدارة يعني ما هو أكبر من فصل شمال غزة عن جنوبها والذي أطلقته إسرائيل قبل أيام من خلال تعبيد الطريق الفاصل في نتساريم بين شمال غزة وجنوبها، ما اعتبر أنه بمثابة رسم حدود جديدة على الأرض، وما يشير ضمناً إلى أن جنوب غزة قد تقبل إسرائيل بوجود حماس فيه لفترة طويلة لكنه سيكون بلا بوابات ما ينقل الصراع مع حركة حماس إلى صراع داخلي في بيئة ضيقة مكتظة بالبشر.

في هذا التوقيت تعود حماس إلى قصة المفاوضات من جديد، بعدما بقيت معادلة المفاوضات الأولى والأخيرة تناقش مستقبل حماس وتترك مستقبل أكثر من مليوني إنسان في العراء. فالمشترك في عالم الأيديولوجيا أن قيمة الإنسان وحضوره هي معنوية فقط، وأن نتاجه المادي الذي يخدم الأيديولوجيا هو المطلوب، ومع غياب هذا الجانب الولائي للأيديولوجيا الحاكمة يصبح الإنسان عبئاً ثقيلاً، لا تعتبر خسارته شيئاً ثميناً إذا كانت هذه الخسارة تحافظ على الفئة التي تحمل الأيديولوجيا وراية الأيديولوجيا.

يقرأون الآن