المجلس العالمي للفتوى في عالم متسارع

فى كانون الأول/ ديسمبر من عام ٢٠١٥م، وفى ظل ما كان يعانيه العالم الإسلامى بأكمله من ويلات الإرهاب والتطرف، أعلنت دار الإفتاء المصرية عن تدشين الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم مظلةً عامة تنضوى تحتها مؤسسات الإفتاء الرسمية فى العالم، إعلان جاء فى ظل حاجة مُلِحّة شديدة لخطاب قادر على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

وقد أُنشئت الأمانة العامة مكونة فى ذلك الوقت من عضوية ممثلين لأكثر من ٣٥ مفتيًا يمثلون دولهم من مختلف قارات العالم، وهو رقم تضاعف على مر الأعوام التى تلت ذلك التاريخ إلى اليوم، وقد تجاوز المائة مفتٍ ومؤسسة إفتائية، لتحمل الأمانة العامة على عاتقها القيام بكل ما يوحى به اسمها الذى يعبر عنها بصدق، فهى الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم الإسلامى، ولتقوم بثلاثة أدوار مختلفة فى غاية الأهمية، دور قديم متوارث للمظلات والمؤسسات العلمية الجامعة، ودور جديد يتحتم على كل المؤسسات العلمية فى عصرنا الحاضر القيام به، وهو واجب من أعظم واجبات الوقت، ودور آخر تستشرف به الأمانة المستقبل وتتطلع من خلاله لغد أفضل للأمة الإسلامية، بل للعالم أجمع.

أما الدور القديم المتوارث للمظلات العلمية، فالأمانة العامة هى هيئة علمية جامعة لمؤسسات الإفتاء، تتكون من علماء فى كافة التخصصات العلمية، وهو الأمر الذى يوفر وسيلة لطرح مشاكل الأمة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من ناحية، مع التفاعل والاشتباك مع هذه المشكلات من ناحية أخرى من خلال مبادئ الشرع الشريف، مع إبداء الأحكام الشرعية، الأمر الذى يضمن تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية.

وهذا الدور القديم دور مهم فى سبيل تحقيق الإجماع الذى ينشده العلماء، وهو الطريق الأمثل للحد من خطر الفتوى الفردية، خاصة من غير المتخصصين، والتى تسببت فى الكثير من المفاسد ونشر المفاهيم المغلوطة، وأدت إلى معاناة مريرة مرت بها الأمة العربية والإسلامية على مدى عقود ماضية، وهو ما أدى على مدار عقود لتهجين بيئة خصبة تنتشر فيها الأفكار السرطانية للجماعات المتطرفة والكيانات المتشددة. وبالإضافة إلى دور جمع الكلمة وتوحيد المبادئ العامة، فقد عظمت دار الإفتاء من دور الإفتاء الرسمى، ظهر ذلك جليًّا فى العمل الموسوعى الضخم الذى قامت به الأمانة من خلال مشروع جمهرة أعلام المفتين، حيث قامت بترجمة أعلام الإفتاء فى العصر الحديث وبدأت من مصر الكنانة، انتقالًا إلى المغرب العربى، ثم الدول العربية فى قارة آسيا، مع بيان مناهج السادة المفتين ومرتكزاتهم العلمية ومناهجهم المرعية.

أما عن الدور الجديد الذى يعبر عن واجب الوقت، فهو محاربة ذلك التطرف الذى استوحش فى أقبح صوره، حيث جمع التطرف بين الخستين، التطرف الفكرى وتهديد الأمن والسلم من خلال تلك التنظيمات المسلحة، المنطلقة بالطبع من الفكر المتطرف الذى تشعب من خلال عدة منابع كجماعة الإخوان الإرهابية وتشعباتها.

وقد دافعت الدولة المصرية عن أمن شعبها وسلامته بكل ما تملك من قوة رشيدة ضد هذه الجماعات المتطرفة، لكن كانت الحاجة ماسَّة إلى مجابهة فكرية تكون على مستوى الحدث، وتعمل على تشخيص الداء الفكرى لمناهج الجماعات المتطرفة وقد أدت الأمانة هذا الدور ببراعة شديدة منذ الوهلة الأولى، فكان على سبيل المثال لا الحصر المشروع العلمى لتفكيك فتاوى وأفكار التشدد والتكفير، وهو مشروع يهدف إلى إخراج موسوعة علمية باللغات المختلفة تفكك وتناقش وترد على أفكار التطرف الدينى خاصة. يُكتب المشروع أولًا باللغة العربية، ثم يُترجم بعد ذلك إلى عدة لغات عالمية، كالإنجليزية والفرنسية وغيرهما، كذلك فقد أقامت الدار عدة مراكز تابعة لها تتخصص فى رصد الفكر المتشدد وتحولاته، كمركز سلام، وكمرصد الفتاوى التفكيرية والآراء المتشددة.

أما عن دورها الذى تستشرف به المستقبل، فقد حملت الأمانة على عاتقها تجديد الخطاب الدينى من ناحية، والذى يسعى لتقديم صورة تعبر عن ديننا الحنيف، خطاب يحفظ مقاصد الشريعة الإسلامية، ويراعى تغير العوامل من الزمان والمكان والأحوال والأشخاص فى تغير الفتوى، ولأجل ذلك فقد بدأت الأمانة العامة فى تأسيس مكاتب تمثيل حول العالم تكون فروعًا للمقر الرئيسى فى القاهرة، وتشارك فى تطوير العملية الإفتائية فى هذه البلاد، وتسهم فى نشر رسالة الأمانة العامة.

كذلك، ومن خلال الدور الاستشرافى للمستقبل، فقد رأت الأمانة العامة ما يحيط بالعالم من تهديدات تسعى لتدمير البناء الأخلاقى للعالم أجمع، تلك التهديدات التى تتمثل فى حملات إلحادية تسعى لتدمير الهوية الجنسية للأجيال، وتسعى لنشر النسبية فى الأخلاق الثابتة التى ترعاها وتحفظها جميع الأديان.

وقد تبلورت تلك الأدوار الثلاثة للأمانة من خلال مؤتمرات علمية سنوية تقيمها الأمانة العامة كمؤتمر عام ٢٠١٧ "دور الفتوى فى استجداد المجتمعات"، وكمؤتمر "مؤسسات الفتوى فى العصر الرقمى" عام ٢٠٢١، ومؤتمر "الفتوى وأهداف التنمية المستدامة" عام ٢٠٢٢.

هذا واستكمالًا لرؤية مؤتمر العام الماضى الذى عُقد بعنوان "الفتوى وتحديات الألفية الثالثة"، وفى إطار دور الأمانة العامة الذى تستشرف به تحديات المستقبل، تعقد الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم يومى ٢٩ و٣٠ يوليو ٢٠٢٤ مؤتمرها العالمى التاسع تحت عنوان "الفتوى والبناء الأخلاقى فى عالم متسارع"، وذلك تحت رعاية كريمة من فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية.

ويُعَد مؤتمر الأمانة هذا العام منصة مهمة لمناقشة دَور الفتوى فى تعزيز الأخلاق والقيم الإنسانية فى عالم يزداد تسارعًا، حيث نهدف من خلاله إلى تعزيز الوعى بأهمية الفتوى الرشيدة فى ترسيخ الأخلاق والقيم الإنسانية، ومناقشة دَور الفتوى فى مواجهة تحديات العصر الحديث، بالإضافة إلى تعزيز التعاون بين مؤسسات الفتوى والمنظمات الدولية والإقليمية، ومحاولة الخروج بتوصياتٍ عمليةٍ لتعزيز البناء الأخلاقى فى المجتمعات.

المصري اليوم

يقرأون الآن