بتعيين البروفيسور محمد يونس رئيساً للحكومة المؤقتة في بنغلاديش بعد الأحداث الأخيرة التي انتهت بهروب الشيخة حسينة إلى الهند، تكون بنغلاديش قد دخلت مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، قد ترجّح فيها كفة الخبرة والحداثة على الميراث السياسي لعائلتين أسهمتا في استقلال البلاد عام 1971، ثم تقاتلتا لأجل الحكم، واستمر الصراع بينهما من خلال حزبي الشيخة حسينة مجيب الرحمن، والشيخة خالدة ضياء الرحمن.
ويقوم الرهان على الدكتور محمد يونس ـ الحاصل على جائزة نوبل للسلام ـ من منطلق أن هذا الرجل (84 سنة) مصرفي متمكن، وخبير اقتصادي متميز، ورجل أعمال ناجح، والأكثر من هذا زعيم مجتمع مدني قريب من هموم المواطنين وآمالهم، كما أنه أنشأ بنك غرامين (بنك القرية) الذي أسهم في مساعدة الفقراء، وتمكينهم من الارتقاء طبقياً.
لكن عملياً، تواجه حكومة يونس ـ وهي عبارة عن إدارة مؤقتة ـ تحدياً هائلاً يتمثل بإنهاء الفوضى والعودة إلى المسار الديمقراطي، بحيث يكون إرساء القانون والنظام "أولويتها القصوى" كما جاء في تصريحاتها، لكن هل الأمر بيدها وحدها؟
ولا شك أن الحكومة المؤقتة الحالية بقيادة محمد يونس قادرة على استعادة المسار الديمقراطي، والتخلص ـ ولو بدرجة قليلة ـ من آثار الصراع السياسي بين حزبي "رابطة عوامي"، الذي هربت زعيمته الشيخة حسينة، وبين الحزب الوطني البنغلاديشي المعارض بقيادة الشيخة خالدة، الذي يسعى إلى العودة في الانتخابات المقبلة، لكن لا هذه الحكومة، ولا الأخرى التي ستأتي بعد عودة المسار الديمقراطي وإجراء الانتخابات قادرة على التخلص من تأثير القوى الدولية الخارجية، التي أسهمت ـ بقصد وإصرار وضمن تخطيط متواصل ـ في استمرار الصراع الداخلي، وخاصة الصين والولايات المتحدة الأميركية.
وجب التوضيح هنا: أن دولة بنغلاديش تحسب ضمن خريطة الصراع الاستراتيجي الصيني ـ الأميركي، بما لها من تأثير من النواحي: الجغرافية، والجيواستراتيجية، والاقتصادية على مستقبل التمدد الصيني والأميركي في العالم، وخاصة في آسيا.
ويذهب الخبراء والمراقبون إلى أن الصراع بين بكين وواشنطن، عبر بنغلاديش، ومنها وإليها ـ يبدأ من ميناء شانغهاي، حيث تنطلق السفن الصينية التجارية، وفي المستقبل العسكرية أيضاً، ولتحقيق هذا عملت الصين من أجل أن يكون لها ممر آمن عبر مضيق ملقا يصل إلى موانئ بنغلاديش، ومنه إلى موانئ سريلانكا، ثم إلى ميناء جوادر في باكستان، وبعدها الانطلاق إلى الخليج وأوروبا.
المسعى الصيني كانت له الولايات المتحدة بالمرصاد، حيث قامت بانقلاب سياسي ديمقراطي في ماليزيا ضد مهاتير محمد، وأغلقت مضيق ملقا على الصين، وتواجدت عسكرياً هناك، وبذلك عطلت المشروع الصيني، وعلى غرار ذاك حاولت بكين الالتفاف على المشروع الأميركي، فقامت بإنشاء طريق بري من خلال سكك حديد يمتد من الصين إلى بورما، وساعدها في ذلك الجيش البورمي، لأنها قامت بانقلاب في بورما، ومنها تخرج السفن إلى البحر، وتعبر ميناء بنغلاديش ثم إلى ميناء سريلانكا.
بعدها قامت مظاهرات في سريلانكا وهرب رئيس وزرائها، وبذلك أغلقت أميركا الطريق على الصين، ونزلت في ميناء همبتوتا السريلانكي، ثم أكملت طريقها نحو باكستان، ودعمت الانقلاب على عمران خان، وأغلقت الطريق أمام الصين.
هكذا إذن، أغلقت أميركا الممرات الحيوية العالمية على الصين، ولم يتبقّ أمام هذه الأخيرة إلا الطريق من بورما، وهي اليوم تخسر في بنغلاديش بعد هروب الشيخة حسينة، التي رفضت التعاون مع أميركا، وبدأت في سحب قواتها حتى لا تؤذي الصين، وبالتي أصبحت جبهة بوتان ضعيفة ضد الصين.
وتشير التقارير إلى لعب أميركا دوراً رئيساً في إسقاط الشيخة حسينة، خاصة بعد محاولاتها بيع موانئ للصين، ومرة أخرى تتقدم الولايات المتحدة في سباقها مع الصين، وتسيطر على الخط الملاحي التجاري.