ظاهرة ازدواج الهوية في العالم السيبراني

كان للرواية الشهيرة "دكتور جيكل ومستر هايد" تأثير كبير على ثقافة القرن التاسع عشر في بريطانيا، إذ أصبحت عبارة "جيكل وهايد" في الثقافة الشعبية حينها مستخدمة للإشارة إلى الأشخاص ذوي الطبيعة المزدوجة، الطيبة في آنٍ والشريرة في آنٍ آخر. ربما بقصد أو دون قصد، أراد الروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، مؤلف الرواية، أن يوضح أن هذا الاضطراب المزدوج في شخصية بطل الرواية نشأ نتيجة للتطور الهائل في العلوم في القرن التاسع عشر. ولعل ما يحدث اليوم من تأثير ثورة المعلومات على الحالة النفسية للإنسان في القرن الحادي والعشرين لا يعدو كونه نتاجاً متكرراً للتقدم العلمي للبشرية.

الهوية بحسب النظرية الاجتماعية النقدية المعاصرة ليست تلك الهوية المستقرة المتماسكة الموروثة، بل هي نتاج لتراكمات من الاختلافات والمفاوضات والخطابات والشعارات ذات الطبيعة المتغيرة. وفي فضاء المعلومات، تتخلق هويتان: الهوية الحقيقية الواقعية، والهوية الإلكترونية التي لا حدود لها. يتيح الفضاء الإلكتروني للشخص أن يختار هويته، وأن يغيرها متى شاء، وأن يتنكر، وأن ينتمي افتراضياً إلى أي مجموعة ليتجاوز بهويته الواقعية حدود العرق أو الدين أو الثقافة أو الطبقة.

ومع تطور تطبيقات الذكاء الصناعي، لم يعد من السهل تحديد ما إذا كنت تتحدث مع آلة أم إنسان. يقترح المتخصصون والباحثون في تطوير البرامج الإلكترونية إصدار برامج (وثائق لإثبات الهوية البشرية)، إذ يمثل قوة وسرعة وذكاء الآلة، وليدة الذكاء الصناعي، أكبر تحدٍ لمستخدمي الإنترنت للتمييز بين الإنسان والآلة. في أحد المواقع، نشرت رسمة هزلية لكلب يجلس أمام جهاز الكمبيوتر ينظر إلى الشاشة وينقر على الأزرار مشغولًا، وتحته ذلك التعليق المشهور: "على الإنترنت، لا أحد يعرف أنك كلب!".

بعيدًا عن الأساليب السياسية الموجهة، يحاول المستضعفون والمهمشون والأقليات، ومن يعانون من أزمة المكانة الاجتماعية أو العلمية أو حتى النفسية، تجاوز حاجز العرق بتقمص الهويات الكونية المشتركة في عالم فضاء المعلومات، والتي غالبًا ما يمثلها العرق الأبيض الذي تأسس في العالم السيبراني على افتراض سيادته على بقية الأعراق.

أخطر ظواهر أو عوارض الهوية الإلكترونية المُقنعة ليس تقمص الضعفاء أو المحتالين قناعًا إلكترونيًا مزيفًا كالشكل أو اللقب أو الاسم المستعار أو العرق أو الاعتقاد الزائف، أو أي قناع إلكتروني احتيالي، بل نقصد انقلاب هوية الشخصية الحقيقية وانسلاخها داخليًا، وشعورها بالهزيمة النفسية أمام الآخر. كثافة وقوة الرسائل الموجهة باستخدام الآلة المبرمجة (الروبوت الإلكتروني) تجعل المهزوم نفسيًا يشعر بأن ما يُنشر في الفضاء الإلكتروني هو واقع حتمي، ويعكس مقاييس الثقافة والحضارة والتمدن والرقي، بل الاعتقاد الصحيح.

ثورة التكنولوجيا أفرزت مفاهيم جديدة للأمن والصراعات السياسية، وأصبحت هي العامل الأول والرئيس في ترجيح كفة القوى العالمية المتصارعة في نشر قيمها، وحشد المؤيدين لها، وإصابة الآخرين بالوهن والضعف. إن من يمتلك توظيف القوة الإلكترونية، سواء كانوا دولًا أو أفرادًا فاعلين، هم من يصنع ثقافة وقيم العالم اليوم، ويحدد توجهاته لاستطاعته تجاوز السياج الأمني والسياسي للمجتمعات.

المنسلخون من هوياتهم الأصلية نتيجة للتشويش الثقافي السيبراني الموجه وغير الموجه، ينقسمون إلى نوعين: من يعانون من قصور في الإدراك كصغار السن والجهال، أو من يعانون من اضطرابات نفسية بيولوجية أو وراثية، أو مكتسبة كالإدمان، وهؤلاء هم الصيد الأسهل لأصحاب الأجندات الإرهابية. إن الانسلاخ من الهوية الحقيقية والتحول إلى شخصية مزدوجة ذات قطبين، ظاهر وباطن، على طريقة دكتور جيكل ومستر هايد، هو أخطر ما تواجهه المجتمعات اليوم من إفرازات الفضاء الإلكتروني، وهو أهم ما يجب معالجته في مجتمعنا بكل الوسائل والأدوات والطرق المبتكرة.

يقرأون الآن