مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، أصبح المسرح السياسي مهيأً لمواجهة لا مثيل لها في الخامس من نوفمبر المقبل. فمن ناحية، تقف كامالا هاريس القانونية والبالغة من العمر 59 عاما ونائبة الرئيس الرائدة على عتبة التاريخ في مواجهة دونالد ترامب البالغ من العمر 78 عامًا، الرئيس السابق الذي لا يعتذر عن أفعاله، والعازم على استعادة المكتب البيضاوي كمرشح قوي وقادر على تحقيق مفاجأت كما فعل في 2016.
ومع بقاء مستقبل أميركا معلقًا في الميزان، فإن هذه الانتخابات تعد بأن تكون تاريخية كونها قد تنتج أول رئيسة للولايات المتحدة الأميركية. وهو حلم يؤرق الديموقراطيين الذين يثيرون الشكوك فيما بينهم حول استعداد أميركا لانتخاب أول امرأة كرئيسة وخاصة أنها من أصول أفريقية أو آسيوية.
وفي الحقيقة هذه الشكوك لها ما يبررها وذلك استنادا الى السوابق التاريخية، حيث لم يتم انتخاب أي امرأة سوداء كحاكمة لولاية على الإطلاق ناهيك عن الرئاسة الأميركية، وكانت كارول براون أول امرأة سوداء والوحيدة تُنتخب لمجلس الشيوخ الأميركي، حيث عملت كعضو في مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي من عام 1993 إلى عام 1999.
أما أول رئيس من أصول أفريقية هو باراك أوباما ولم ينتخب إلا في عام 2008، بينما تم انتخاب كامالا هاريس كأول إمرأة نائبة رئيس وأول نائبة رئيس من أصول أفريقية وأول نائبة رئيس من أصول آسيوية في عام 2020 وتم اختيارها كمرشحة ديموقراطية للرئاسة بعد استبعاده بايدن برغبة من قادة الحزب دون انتخابها.
وإذا نظرنا إلى تاريخ الانتخابات الأميركية البالغ من العمر235 عاما وهو عمر طويل جدا، يشعر المؤرخون في أميركا بالحيرة حيث لم تفز امرأة لا بيضاء ولا ملونة بالرئاسة الأميركية رغم الحالة الحقوقية المتقدمة للنساء في أميركا.
وقد يحتج البعض بقضية حقوق التصويت وما شابها من اشكالات لعقود طويلة للأميركان من أصول أفريقية، لكن تاريخيا مُنح الرجال السود حق التصويت في الانتخابات الأميركية في التعديل الخامس عشر في عام 1870. صحيح أنه كانت هناك ممارسات تمييزية مختلفة للتأهل لحق التصويت مثل اختبارات محو الأمية (معرفة القراءة والكتابة)، ودفع رسوم من أجل التصويت وهي عناصر حدت من مشاركتهم السياسية لكنها لم تمنعهم من التصويت وهي حقبة يحتج بها الديموقراطيين كثيرا ويصفونها بعصر قمع الناخبين. وبالفعل، لم يتم تفكيك هذه العوائق بشكل كبير إلا بعد صدور قانون حقوق التصويت لعام 1965 بعد اندلاع أحداث حركة الحقوق المدنية التي أسهمت في القضاء على العنصرية في أميركا وسهلت عمليات التصويت ورفعت من مستوى المشاركة السياسية للأميركان من أصول أفريقية.
وحاليا، هناك 25 امرأة من أصول أفريقية من أصل 430 نائبا في مجلس النواب الأميركي، ولكن لا توجد أي امرأة من أصول أفريقية في مجلس الشيوخ.
ورغم دعم غالبية السكان في أميركا لوجود رئيسة من أصول أفريقية وفقا لاستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2020 والذي أظهر أن 72% من الأميركيين كانوا مرتاحين إلى حد ما أو للغاية لفكرة وجود رئيسة سوداء إلا أن النساء من أصول أفريقية يواجهن تمييزًا عنصريًا، وغالبًا ما يُطلق عليه "الخطر المزدوج" من قبل الناخبين وهي معضلة لم يجدوا لها حلًا.
ويمكن أن يؤثر هذا الخطر على تصورات الناخبين وقدراتهم على التبرع بالأموال للحملات الانتخابية. كما أظهرت الدراسات أن السياسيات من أصول أفريقية غالبًا ما يتلقين تغطية إعلامية أقل ويخضعن لتدقيق أكثر سلبية مقارنة بنظيراتهن البيض. كما يمكن أن تؤثر القضايا المتعلقة باستبعاد الناخبين، وخاصة قوانين الولايات الداخلية المعقدة على الناخبين السود وعلى نتائج ترشيحهن في الانتخابات.
وبالرغم من نجاح حركة الحقوق المدنية في تعزيز التعددية السياسية والعرقية داخل أميركا وتغيير المواقف الاجتماعية الى الأفضل لكن لا يزال هناك جزء كبير من المجتمع الأميركي لديه آراء مقاومة ضد فوز امرأة بالرئاسة بخلاف أن عرق المرأة وجنسها يضيف طبقات من التعقيد ضد نجاحهن السياسي، وهو ما قد يحشد قاعدة الغالبية ضد قاعدة الأقلية وهو عنصر حاسم في الانتخابات الأميركية.
وفي اعتقادي أن كامالا هاريس رغم تقدمها الطفيف في الاستطلاعات تدرك تماما تعقيدات فوزها بالرئاسة الأميركية استنادا إلى التاريخ، إلا أن دورها كنائبة للرئيس كسر العديد من الحواجز وأنشأ سابقة جديدة.
وفي الحقيقة شهد المشهد السياسي الأميركي تحولًا ديناميكيًا على مدى العقود القليلة الماضية، وتميز بشكل خاص بانتخاب أول رئيس أسود ومؤثر للبلاد في عام 2008 وانتخاب هاريس كأول نائبة للرئيس من السود وجنوب آسيا في عام 2020 وهذا التطور حدث في غضون 12 عامًا فقط.
وقد أثارت هذه المعالم الجديدة سؤالاً وثيق الصلة، هل حان الوقت لانتخاب رئيسة؟
عمليًا لا توجد إجابة إيجابية وفق ما أفرزته نتائج الانتخابات الأميركية طوال القرنيين الماضيين. وعلى الرغم من عدم ممانعة المجتمع الأميركي أن تفوز امراة بالرئاسة وتقدم الأمة الأميركية في المساواة العرقية وغيرها إلا أن هناك نسيجا معقدا من العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تساهم في منع النساء من الوصول إلى سدة الرئاسة في أميركا.
وبحسب المؤرخين والمراقبين للانتخابات الرئاسية الحالية، تقف أميركا عند مفترق طرق، حيث تواجه هاريس مرشحا مدانًا وتم عزله مرتين وليس مفضلا من قبل الكثير من الفئات العمرية والاجتماعية، ولديها أفضل فرصة لكسر هذا الحاجز ووصولها لأعلى منصب في البلاد، حيث سيعتبر فوزها تاريخيا بمعنى الكلمة.
لكن هناك تحديات مجتمعية وبنيوية كبيرة لا تزال قائمة وأكدت عليها استطلاع شبكة CBS نيوز الأميركية يوم أمس والذي كشفت فيه أن ما يقرب من ثلثي الناخبين الذين لا يحبون ترامب شخصيًا، سيصوتون لصالحه بنسبة 21% وهذا أربعة أضعاف عدد الناخبين الذين لا يحبون هاريس شخصيًا، ولكنهم يدعمونها والبالغ عددهم 5% فقط.
ويمتد هذا النمط إلى سمة أخرى أيضًا حيث يقول معظم الناخبين إن ترمب يوجه الاهانات للخصوم عندما يتحدث، لكن أكثر من ربع هؤلاء يدعمونه على أي حال. ومن بين الناخبين الذين يعتقدون أن هاريس توجه الاهانات لخصومها لا تحصل إلا على دعم أحادي الرقم فقط.
هذه التعقيدات والسوابق التاريخية وأرقام الاستطلاعات التي تظهر تعادل المرشحين قبل 6 أسابيع من الانتخابات قد ترجح كفة ترمب في نهاية المطاف للفوز بالرئاسة مجددا كما فعل وهزم هيلاري كلينتون وتأجل الاستحقاق التاريخي للنساء في أميركا حتى إشعار آخر، مع عدم إلغاء احتمالية قلب هاريس لكل النواميس الاجتماعية الأميركية وتفوز بالرئاسة.