فيما يبدو أن جذور التاريخ في العلاقة شبه الشائكة بين الدول العربية وإيران، وهذا الالتباس بين تأثيرات الانتماء للمذهب الديني والتطلعات السياسية الذي يمتد منذ القرن السادس عشر الميلادي مرورًا بالتحول إلى المذهب الشيعي في العصر الصفوي، ثم هيمنة الغرب على العالم العربي، ثم الثورة الإسلامية وما بعدها من صراع دخل طورًا جديدًا في أساسه سياسي، وكان المذهب أحد أدواته، مع إضافة القوى الدولية المهيمنة؛ لتكون طرفًا في صراعٍ ثلاثي، وصولًا إلى اللحظة الراهنة حتى بدت الصورة غائمة بين حسابات الرأي العام والشعبي، وبين حسابات السياسة الدولية ومقتضيات مجريات الأحداث في الشرق.
وإعادة النظر من زاويةٍ جديدة إلى هذا الطرف الثالث الغربي الذي طالما أجج فتيل الفتن وأبقى على جمر صراعات الطوائف والمذاهب متقدًا، ليبسط وفق مخطط مسبق مزيد من النفوذ في الشرق المنكوب؛ سواء بشكل مباشر أو من خلال ما سُمي بـ"إسرائيل".
هذا ما يمكن قراءته من موجة الاختلافات في الرؤى التي ذهبت لتقييمات الضربات الإيرانية المباشرة الموجهة للكيان المحتل، من بعد طوفان الأقصى، وتلك التي تنفذها الأذرع الإيرانية من خلال حزب الله، وذهاب البعض إلى فكرة المسرحية الهزلية، مرةً تعليقًا على الرد الإيراني بعد استهداف الاحتلال لقنصلية طهران بدمشق، في أبريل الماضي، والذي راح ضحيته قادة وعسكريون كبار، على الرغم من أن ذلك الرد قد شغل الرأي العام العالمي قبل تنفيذه وأحدث توترًا كبيرًا في الأجواء، وربما لم يكن بحجم الضجة التي كانت حوله، ولم تكن تخفى مع ذلك حالة الذعر داخل المجتمع الإسرائيلي وتكبد الكيان باعترافه نحو مليار دولار للتصدي لتلك الصواريخ، ثم تكرار السيناريو بعد مزيدٍ من الاستفزازات الإسرائيلية وصولًا إلى اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله في لبنان، ومعه كبار قيادات الحزب في غارات جوية على مقره، أسقطت فيها ما يقدر بـ80 طناً من القنابل، وذلك بعد أقل من شهرين من اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ورئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق في قلب العاصمة الإيرانية طهران.
لكن هذه المرة كان الرد الإيراني مختلفًا، وإن صوره البعض قبل حدوثه بأنه لدفع الحرج، غير أنه كشف جزءًا كبيرًا من غرور جيش الاحتلال، وأحدث تأثيرًا قويًا، قياسًا إلى ترسانات الأسلحة ومنظومات الدفاع التي تدعم بها واشنطن الكيان المحتل، فالهجوم الذي جاء تحت لافتة ""الوعد الصادق 2". فشلت في صده القبة الحديدية التي يعتبرها الجانب الإسرائيلي صمام أمانٍ له، بل وضاعف من موجات المواطنين المنتظرين في المطارات الإسرائيلية للمغادرة النهائية، ولم يكن الرد "تهويشًا" كما ذهب البعض، وذلك مع استمرار القتال في الجبهة اللبنانية وتكبد الاحتلال خسائر ليست قليلة في المواجهات المستمرة مع حزب الله في لبنان.
كل ذلك وما سبقه وتلاه من أحداث، قد أضفى تحسنًا ملحوظًا لصورة إيران في عيون الجماهير العربية، انطلاقًا من التعاطف التقليدي والطبيعي مع القضية الفلسطينية، وخصوصًا بعد طوفان الأقصى ومع المقاومة من خلال حماس، والتي خرج حسن نصر الله في خطابٍ مطول مُثنيًا على أدائها، وناسبًا شرف عملية الطوفان لها، في إشارة ضمنية وواضحة إلى محاولة ردم هوة الصراع المذهبي "سني وشيعي"، وقد تكون إيران اكتسبت وضعًا استثنائيًا مع زيادة وتيرة الحرب الشرسة على الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، والتي راح ضحيتها نحو 45 ألف شهيد، بخلاف آلاف تحت الركام والأنقاض، وشهداء العطش والجوع، وإصابة ما يقترب من المئة ألف جريح، وتدمير البنى التحتية ثم نقل جبهة القتال إلى لبنان وكالعادة بمباركة أمريكية مستمرة ووسط إخفاق واضح من المجتمع الدولي نحو تحرك حقيقي وفاعل لإيقاف آلة الحرب، التي يتحدى فيها نتنياهو الجميع غير ملتفت سوى إلى مستقبله السياسي المشؤوم لولا استمرار الحرب.
وفي ظل استمرار الغارات المكثفة على الضاحية الجنوبية بلبنان وكذلك على غزة، ومع الدعم المكشوف والواضح من قبل واشنطن ولندن وعلى مضض باريس التي استنكرت الهجوم الإيراني على الكيان المحتل، تبرز قراءتان للمشهد الحالي، إحداها تصور نتنياهو بوجود فرصة سانحة لضرب المفاعل النووي الإيراني، على الرغم من تصريحات بايدن الباهتة بأن الوقت ليس مناسبًا للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، في الوقت الذي تكثف فيه أمريكا من إرسال أسلحتها إلى الشرق، وإرسال قائد القيادة المركزية الأمريكية إلى إسرائيل للمساعدة بتنسيق الرد على إيران، مع استمرار محاولات تدمير ركائز وبنية حزب الله، لتتفاقم الأوضاع باتجاه نية الحرب وإن اتسمت بالشمول للمنطقة فيما بعد، ما يقودنا إلى القراءة الموازية وهي تقييم الموقف الشعبي والرسمي من إيران، وما تقتضيه المرحلة، خصوصًا بعد خطبة الجمعة للمرشد الإيراني على خامنئي، والتي بعثت برسائل إلى حزب الله والحوثيين وحماس، وأخذت مظاهر احتفائية حيث احتشاد الآلاف في المسجد الكبير بطهران، وظهور صورة كبيرة لحسن نصرالله بين جموع المصلين، وتلويح الحشود بعلمي فلسطين ولبنان وكذلك علم حزب الله، وصرح خامنئي بوضوح قائلا: "هذا الخطابُ موجّهٌ للأمّةِ الإسلاميّةِ جَمعاء"، ومؤكدًا عجز الاحتلال أمام حركات المقاومة الإسلامية دون تمييز حين قال "العدوّ الخبيثُ الجبانُ، إذ عجزَ عن توجيه ضربة مؤثّرة للبنية المتماسكة لحزب الله أو حماس أو الجهاد الإسلامي"، ثم الإشارة إلى واجب المسلمين جميعًا تجاه غزة والمسجد الأقصى، ومواجهة الكيان الغاصب الذي يعد ذراعًا أمريكية وأداة للاستحواذ على موارد المنطقة واستثمارِها في الصراعات العالمية الكبرى؛ من خلال تحويل الاحتلال إلى بوابة لتصدير الطاقة إلى الغرب.
وبالقراءة المباشرة لخطبة المرشد الإيراني يمكن استخلاص نتائج واضحة في اتجاه دعم كل مقاومة تتصدى للطغيان والتوحش المستمرين والتصعيد في الحرب على الجبهة الفلسطينية واللبنانية على السواء بمدٍ أمريكي بريطاني وألماني وفرنسي، فيما يمكن وصفه بـ"رب ضارةٍ نافعة"، حيث رأب جزءًا كبيرًا من الصدع المذهبي المفتعل، خصوصًا بعد مؤشرات سابقة مثل إعلان المصالحة بين إيران والسعودية، بعد سنوات من القطيعة الدبلوماسية، في مبادرة رعتها الصين، واستهدفت الحد من التوترات في أنحاء الشرق الأوسط، وهناك كذلك الحديث المفوه لشيخ الأزهر الذي أكد فيه أنه لا تفرقة بين ما يسمى بسني أو شيعي، فنحن جميعًا في بوتقة الإسلام، وإشارات نصر الله في خطابات سابقة إلى لُعبة "صراع المذاهب" المحاكة من الغرب؛ لتشتيت المنطقة عن قضاياها وقضيتها الأم، ومع كل ذلك العودة بالتاريخ إلى فترة التشارك التي تعايش فيها العرب والفرس باختلاف مواقفهم المذهبية تحت سقف دولة واحدة، وإنتاج مكونات المجتمع الإسلامي الذي أسهم في بناء الحضارة الإسلامية.
وربما يليق بالموقف الحالي أن تتكاتف الجهود لدرء الخطر المتزايد من قبل الكيان المحتل وداعميه، والخروج بسلامٍ من هذا النفق، ثم ترتيب البيت من جديد، بعد تعلم الدرس.
بوابة الأهرام