التنافس الإيراني – التركي على المشرق العربي

لا شك أن التنافس العثماني (التركي) الصفوي (الإيراني) كان تنافساً سلطوياً، تحوّل إلى مذهبي بين قبيلتين تركيتين. اختارت الأولى المذهب السنّي لتكوين إمبراطورية، بينما اختارت الثانية المذهب الشيعي لتكوين إمبراطوريتها. فقد اختار إسماعيل الصفوي التشيّع عام 1501، وأجبر الإيرانيين على التحوّل الى المذهب الشيعي، هذا مع أن جده الأول صفي الدين الأردبيلي، الذي ولد عام 1352، كان رجل دين سنياً صوفياً. ولتحويل إيران إلى المذهب الشيعي الإثني عشري في وقت قصير نسبي، ولقلة رجال الدين الشيعة في إيران آنذاك، كان على إسماعيل الصفوي أن يشجّع رجال دين شيعة على أن يأتوا من جنوب العراق وجبل عامل في لبنان، ليعلموا الإيرانيين السنة، ويسهلوا تحولهم السريع الى المذهب الشيعي. وإسماعيل الصفوي لم يقض على المذهب السني في إيران فقط، وإنما قضى على التشيع الإسماعيلي، الذي انحصر إلى جيزان والسلمية في سوريا، والتشيع الزيدي الذي استقر في اليمن.

وبشكل عام، فإن الإمبراطوريات، بما في ذلك الأمبراطوريات العلمانية، مثل الاتحاد السوفيتي، تحتاج إلى أيديولوجيات لكي تسود وتعمّر. فالأمبراطورية الرومانية اختارت المسيحية على يد قسطنطين في منتصف القرن الرابع الميلادي، وما كان لها أن تستمر أكثر من ألف سنة أخرى من دون هذا التحوّل الى المسيحية. فالملوك والقادة السياسيون بحاجة إلى رجال الدين لشرعنة حكمهم. والاستثمار في بناء أماكن العبادة يعزّز ويظهر النوايا الطيبة للحاكم، كما يساعد كثيراً على النهضة العمرانية والفنية. وما كنا سنشاهد هذه المساجد والكنائس الجميلة وهذه الزخارف والأعمال الفنية المبهرة من دون هذا التزاوج بين الدين والسياسة. هذا باعتراف أكثر علماء الاجتماع علمانية.

هذا وتطرقنا، في الجزء الأول من هذا المقال، إلى أن السلطان العثماني سليم الأول تمكّن من هزيمة السلطان الصفوي إسماعيل الأول في جالديران في 1514، ودخل مدينة تبريز شمال غرب ايران، الأمر الذي أدى إلى فتح العراق وسوريا. هذا كما تطرقنا إلى أن حروب العثمانيين والصفويين ظلت مستمرة، وتمكّن الصفويون من احتلال بغداد لفترة قصيرة في منتصف القرن السابع عشر، ومحاصرة البصرة في منتصف القرن الثامن عشر.

وكون علماء الشيعة من جبل عامل سهلوا في تحقيق أهداف إسماعيل الصفوي في تحوّل ايران إلى إمبرطورية شيعية، فإن هذه العلاقة بين إيران وشيعة لبنان ظلت مستمرة منذ ذلك الوقت، وحتى الشاه العلماني، الذي يفخر بعنصره الآري أكثر من مذهبه الشيعي، حاول أن يستغلها.

ففي زيارة شاه إيران إلى لبنان 1957، الذي استقبله فيها الرئيس كميل شمعون، وكان لبنان آنذاك في خضم صراع مع تيارين سياسيين إقليميين هما: تيار حلف بغداد، والتيار الناصري، حاول الشاه أن يعرض مساعدات على لبنان، أو بالذات على شيعة لبنان، بعد اجتماعه مع صبري حمادة رئيس مجلس النواب، الذي ولد في الهرمل عام 1902، لكن الرئيس حمادة رفض ذلك. وكان رفضه بمنزلة رفض لتدخل إيران في الشؤون الداخلية اللبنانية.

هذا وإن كان الإسلام الشيعي في لبنان لم يظهر سياسياً بعد، حيث كان صبري حمادة وكامل الأسعد يمثلان الإقطاع الشيعي. وكثير من اللبنانيين، بمن فيهم كثير من الشيعة، يعتبرون أن الإسلام الشيعي السياسي بدأ بعد وصول موسى الصدر إلى إيران عام 1959، وأنه منذ البداية كان يمثّل النفوذ الإيراني في لبنان. فالصدر الذي ولد عام 1928 في قم، زار لبنان للمرة الأولى عام 1955، لكنه لم يقِم فيها، ولغته الأم هي الفارسية. ووصل للإقامة في لبنان عام 1959 مبعوثا عن المرجعيتين الدينيتين حسين البروجردي ومحسن الحكيم. وبعد استقراره في لبنان، تعرّف على حياة الحرمان، التي كان يعيش فيها كثير من الشيعة في مختلف قرى جبل عامل وبعلبك والهرمل. ويذكر أنه كان منفتحاً على رجال الدين الآخرين، مسلمين وغيرهم، فشارك في العمل على ضخ النشاط في تنظيم "الحركة الاجتماعية" مع المطران الكاثوليكي غريغوار حداد، إضافة إلى جمعيات اجتماعية وثقافية أخرى. وفي صيف 1966، عرض في مؤتمر صحافي آلام الطائفة الشيعية ومظاهر حرمانها في لبنان، وبعد سنة سافر إلى غرب أفريقيا ليلتقي بالمهاجرين اللبنانيين الشيعة، وفي عام 1969، تأسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ليكون الصدر رئيسه.

وفي عام 1974، أسس الصدر مع حسين الحسيني "حركة المحرومين" أو "أمل"، ويقدّر له أن أعلن الإضراب عن الطعام احتجاجاً على الحرب الأهلية في لبنان، وكان هذا في وقت لم يكن لحركة أمل أو أي تنظيم شيعي آخر وجود مسلح. وبعدما اختفى الإمام الصدر عام 1978 في ليبيا، واندلعت الثورة الإيرانية بعد ذلك بسنة، أصبح القيادي الإيراني في حركة أمل مصطفى شمران وزيراً للدفاع في طهران. ولسوء حظ إيران، فإن النظام السوري صادر حركة أمل لمصلحته، مما اضطر النظام الإيراني إلى تأسيس "حزب الله".

كانت إيران تجد في الشيعة العرب جسراً لتقوية نفوذها في العراق ولبنان والبحرين. وإن كان هذا طبيعياً لعوامل دينية وثقافية، إلا أن استغلالهم لأهداف سياسية لا يجلب لهم إلا الضرر، فهم عرب ثقافة ولغة وتاريخاً، واللغة هي أهم عامل يشكل الانتماء الوطني. وفي هذا المجال، يقول المؤرخ أناتول رابوبورت: "اللغة هي المقياس الأكثر أهمية، الذي يتجسّد فيه التعريف بالمواطنة. وحب الفرد للغته من مظاهر الإحساس النبيل، الذي يتملك المفكرين والمثقفين وذوي الأخلاق الحميدة".

هذا فإن الانتماء الوطني من خلال اللغة إنساني وغير عنصري. فالجينات لا تحدّد لا الانتماء الوطني ولا الثقافة. ومعظم العرب، خاصة من سكان المدن، مثل القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد والبصرة، يحملون مزيجاً من الجينات العربية والفارسية والتركية. كما أن كثيراً من سكان طهران وإسطنبول، من ايرانيين وأتراك، يحملون جينات عربية، لكن كون لغتهم الأم فارسية وتركية، فهم ليسوا بعرب. لكن بالطبع إن كانت اللغة تميّز كل قومية، فإن الدين يمكن أن يجمعنا روحانياً.

هذا ولو قارنا العلاقة العربية الإيرانية من جهة، بالعلاقة العربية التركية من جهة أخرى، منذ عام 1979، لوجدنا الأولى ليست متوترة فقط، وإنما مرت بحروب في العراق أولاً ثم بسوريا. ففي الحرب العراقية الإيرانية، خسر الإيرانيون والعراقيون ما يقارب المليون، أغلبهم من المسلمين الشيعة. هذا بينما نمت العلاقة العربية التركية اقتصادياً وثقافياً باطراد، حتى أصبحت إسطنبول معبراً للعرب لباقي بقاع الأرض. أما من يزور إيران، ففي أغلب الأحيان يزورها مضطراً لزيارة المراقد المقدسة. كما أن هناك حوالي 70 ألف طالب جامعي عربي يدرسون في الجامعات التركية، وتصدر تركيا للعالم العربي بضائع تفوق قيمتها أضعاف ما تصدره إيران. وبشكل عام، فإن العرب يفضلون نظاماً ونخبة، مثل تلك التي تحكم تركيا، على تلك التي تحكم ايران. هذا بالرغم من أن ما قدمه الفرس للثقافة الإسلامية أعمق وأوسع مما قدمه الأتراك. ونحن العرب بحاجة الى مصالحة ثقافية مع الإيرانيين. وقد يكون العراقيون الأكثر قدرة على ذلك.

فقد نشر مؤخراً العراقي عباس لطيف روايته "العروج إلى شيراز"، وهي تحكي قصة جندي عراقي مهتم بالأدب، يضطر للانخراط في الحرب العراقية الإيرانية، يجد هذا الجندي العراقي، الذي اسمه جلال شاكر، في أحد الخنادق التي انسحب منها الجيش الإيراني مخطوطة غير مكتملة عن حياة الشاعر حافظ الشيرازي، تركها جندي إيراني اسمه مير قرباني. وكما بدا، فإن مير قرباني كذلك أرغم على خوض الحرب، فكلا الجنديين الأديبين اضطرهما نظامان ظالمان على خوض الحرب، وكلاهما وجدا في حياة وشعر حافظ الشيرازي مأوى لهما من عذابات الحرب وغربتها. خاصة أن الشاعر حافظ الشيرازي عانى نفسه من ظلم الحكام. فيقوم الجندي العراقي بعد نهاية الحرب بإكمال هذه المخطوطة التي بدأها الجندي الإيراني.

لقد كان عباس لطيف مبدعاً في خلق جسور ثقافية مع الشعب الإيراني.

القبس

يقرأون الآن