التصعيد المحتمل الذي كانت تخشاه دول الإقليم وبقية العالم تحول إلى هجوم إسرائيلي “منضبط” على إيران، وإلى خطوة للتهدئة. لا نعرف تفاصيل الهجوم وما مديات “الأضرار” التي خلفها بحسب التوصيف الإيراني. ولكن من الواضح أن الإسرائيليين برمجوا ردهم حجما وتوقيتا بحيث لا يستجلب أي رد.
من السذاجة القول إن إسرائيل التي أرسلت أكثر من 100 طائرة مقاتلة للقيام بالمهمة إنما كانت تخاف من رد الفعل الإيراني. أقلعت المقاتلات، بعضها متطور وشبحي من الجيل الخامس من طراز أف – 35 والبعض الآخر من الجيل الرابع أي الذي طورته الولايات المتحدة وأنتجته في السبعينات من طرازي أف – 16 وأف – 15، وأغارت على أهداف في العمق الإيراني، بل ووصلت إلى ضواحي طهران. لم تتمكن المضادات الإيرانية الأرضية من إسقاط أي منها، ولم تغامر أي من الطائرات الإيرانية المقاتلة بالتصدي لها ضمن خطط الكمائن الجوية في طريق العودة التي تعتمد في مثل هذه الحالات. حال الطيارين الإسرائيليين هو “رحنا وجينا بالسلامة”. ولا تخوفت إسرائيل من هجوم إيراني مقابل، بعد أن خبرت آثار هجومين بصريين كبيرين من المسيرات وصواريخ كروز وصواريخ بالستية عادية وفرط صوتية، لم يؤديا إلى أيّ إصابات على الأرض تقريبا.
لم يتردد الأميركيون في إجراء محاولات تعطيل الهجوم الانتقامي الإسرائيلي. لم يكن تسريب الوثائق عن الهجوم الذي يجري التحقيق فيه الآن في الولايات المتحدة إلا محاولة لعرقلة الهجوم بكشف تفاصيله. ثم مع حدوث الهجوم، سرب الأميركيون تصريحات أدلى بها مسؤولون كبار يقولون فيها إنهم على تواصل مع الإيرانيين، أخذا وردا، ما يعني أنهم أعلموهم مسبقا بمستويات “انضباط” الرد الإسرائيلي.
لم يُضع المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الكثير من الوقت كعادته في هذه المناسبات، بل تحدث عن الهجوم الإسرائيلي قبل أن تَمضي عليه 24 ساعة. واضح من قوله أن إيران ليست بصدد الرد على الرد. الانضباط الإسرائيلي يلقى أمامه انضباطا إيرانيا.
لكن هذا الانضباط هو خبر سيئ بالنسبة إلى حزب الله. لا شك أن حماس تجاوزت زمن الأخبار السيئة. الحملة الإسرائيلية مستمرة، وها هو يحيى السنوار يقتل ولا أحد يتحدث عن رد إيراني للانتقام له. وهل تم الانتقام إيرانيّا لإسماعيل هنية حتى يتم الانتقام للسنوار. إلا أن الوضع مختلف بالنسبة إلى حزب الله. استنفدت إسرائيل بنك الأهداف الثمينة. قُتل حسن نصرالله، أيقونة حزب الله، وقتل بعده شبيهه وخليفته هاشم صفي الدين، وقتل قبلهما أو معهما كل قادة حزب الله الأساسيين. هل يتوقع نعيم قاسم مثلا أن تنتقم له إيران في حال استهدافه من قبل الإسرائيليين؟ لا شك أنه ليس موهوما إلى هذا الحد.
الأخبار السيئة لحزب الله تتجسد بالقصف المستمر والشديد على جنوب لبنان والضاحية والبقاع. وعلى العكس من الوضع في غزة، حيث النازحون يتحركون بين منطقة خطرة وأخرى أخطر داخل القطاع، فإن إسرائيل تضغط على لبنان، البلد الذي فيه الكثير من جيوب آمنة حقيقية بالنسبة إلى النازحين. ثمة مناطق للسنة ومناطق للمسيحيين المارونيين والأرثودوكس والأرمن ومناطق للدروز. بدأ النازحون من الجنوب الانتقال إليها دون خشية من الاستهداف. ما يردده اللبنانيون لبعضهم البعض وأمام من يستقبلونهم من نازحين من الجنوب أو الضاحية، ألّا تأتوا معكم بقيادات من حزب الله أو أموال، ولن تستهدفكم إسرائيل وتستهدفنا معكم. الرسالة في هجومي كسروان وجبيل كانت واضحة على هذا الأساس. وساعدت إسرائيل النظام السوري على النأي بنفسه أكثر عن الصراع في لبنان، حين استهدفت أكثر من معبر حدودي رسمي، في إشارة إلى منع تسلل الشخصيات المهمة في حزب الله نحو سوريا ومنها إلى إيران، أو السماح بإدخال سلاح إيراني عبر سوريا.
العبء الأخلاقي الذي واجهته إسرائيل في حملتها المجرمة على غزة، ستتحرر منه في لبنان بأن تقوم بإلقاء إشعارات من الطائرات المسيرة أو توزيع رسائل نصية على شبكة الهواتف المخترقة عن أهداف في الجنوب والضاحية والبقاع، وأن تدعو سكان هذه المناطق إلى التوجه نحو أمان مناطق السنة والمسيحيين والدروز، لتلتفت هي إلى التدمير الشامل لكل البنى التحتية لمناطق الشيعة. تربح إسرائيل مرتين بهذه الإستراتيجية. مرة حين لا تستهدف النازحين في مناطق “آمنة”. ومرة أخرى إذ تترك اللبنانيين بمختلف طوائفهم أمام امتحان الوطنية. يغرق لبنان المنكوب اقتصاديا بأكثر من مليون مهجر داخليا، سيخسفون بالبنية التحتية في مناطق السنة والمسيحيين والدروز المهلهلة أصلا، وسيتسببون في المزيد من التذمر والضغط على بيئة حزب الله التي لن تجد بديلا غير الانقلاب على الحزب الذي أوصلها إلى هذا الوضع بقراراته. حتى “السيد” غير موجود وهو في البرزخ ولا يمكن لومه ولا الاستنجاد به. وها هي إيران تعزل نفسها تماما عن مجريات حرب لبنان بالطريقة ذاتها التي عزلت بها نفسها عن مجريات حرب غزة.
في العرف العسكري ثمة مصطلح اسمه الحجابات. على جبهات القتال، تنشئ الوحدات المقاتلة الكبرى بمستوى الألوية والفرق والفيالق حجابات جس وتعطيل متقدمة ومكونة من سرايا وأفواج، أي وحدات أصغر، تتلخص مهمتها في رصد أي تعرض للعدو وتعطيله إلى حين تتمكن الوحدات المقاتلة الأكبر من الرد، أو عدم الرد تحسبا أو على سبيل المناورة. يتعامل قادة الوحدات العسكرية الكبرى مع الحجابات بمنطق الخسائر المبكرة التي لا بد منها لحماية القطعات الأهم. ومن عاصر الحرب العراقية – الإيرانية مثلا، يعرف أن الحجابات هي من أسوأ المواقع التي يمكن أن يخدم فيها الجندي والضابط، نظرا إلى استنزافها الدائم وإدراك القائمين على الحجابات أنهم خاسرون لا محالة؛ إما انسحابا لتقليل الخسائر أو استشهادا أو أسرا.
لوهلة تعاملت حماس على أنها من ضمن الحجابات وأن إيران قادمة لنجدتها. ولفترة سنة تقريبا، تصرّف حزب الله كما لو أنه حجابات صامدة أمام الإسرائيليين وأنهم لن يجرأوا على اختراقها خوفا من الهجوم الإيراني المقابل. خلال السنة الأولى من “طوفان الأقصى”، لم يتبق من حجابات حماس ما يمكن أن يعد قوة عسكرية، بعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية لمقاتلي حماس ثم قتلت قادتهم السياسيين والعسكريين. وها هو السيناريو يتكرر مع حزب الله مع فارق القدرات والإمكانيات المتاحة للحزب الذي أنفقت عليه إيران المليارات تسليحا وتنظيما وتدريبا. توهم حزب الله أنه قادر على الصمود، إلى حين أن استكملت إسرائيل تدمير غزة، واستدارت إليه وها هي تنزل به مصيبة أكبر، ليس فقط بقتلها نصرالله -رغم أهمية الأمر- وإنما أيضا بقتلها وإصابتها الآلاف من مقاتلي الحزب وكوادره في هجمة البيجر – الووكي توكي الشهيرة. بكل المقاييس، الضربة التي وجهت إلى حزب الله كانت أشد وأقسى من تلك التي استهدفت حماس، وها هي حجابات الحزب تتآكل ولا أمل في استعادة توازن خط الجبهة طالما حسم المرشد خامنئي الأمر بتقييد الرد الإيراني.
المشهد في لبنان يتحول إلى ما يشبه المشهد في غزة مع وجود جيوب آمنة. الأوروبيون أعجز من فعل أي شيء لمنع إسرائيل، واللبنانيون أنفسهم يعلمون أن لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل سترضيان بالعودة إلى القرار 1701. وزيادة في رش الملح على جرح حزب الله، فإن أحدا لا يبادر، من باب رفع العتب، ويتحدث عن مفاوضات هدنة في الدوحة أو القاهرة أو جزر الواق واق. حزب الله أمام مصيره الآن، وهو أول من يدرك أن كسر زجاج نافذة غرفة نوم نتنياهو بمسيّرة ليس هو الرد الذي سيمنع الإسرائيليين من الإمعان في تدميره. كل الكلام عن جبهة سورية أو جبهة عراقية أو جبهة يمنية بلا قيمة فعلية أمام ضربات لا تعرف الرحمة تستهدف مباني الضاحية واحدا بعد آخر.
لعل أغرب المفارقات في هذه الحرب أن إسرائيل وفرت لحماس وحزب الله فرصة أن يتراجعا ويقبلا بالهزيمة ليحاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى بين أيديهما من سلطة أو نفوذ. قتلت إسرائيل القيادات الأساسية في حماس وحزب الله، وخصوصا هنية والسنوار ونصرالله وصفي الدين، ممن كان من الصعب عليهم أن يتراجعوا عن خطابهم التصعيدي في مواجهة إسرائيل. من يخلفهم الآن يمكن أن يجادل بأن مصير حماس وحزب الله على المحك، بل إن إيران نفسها قد تفكر بهذه الطريقة، وأن عليهما أن يقبلا بأي شيء طالما يؤدي إلى منع إسرائيل من استكمال الإجهاز عليهما. إيران نفسها ستجد أنها ستخسر قريبا بموقف يفاجئها من بشار الأسد في سوريا، وأن العراقيين ليسوا كلهم حشدا شعبيا أو أن اليمن هو الحوثي فقط. ستكون هزيمة مدوية والقبول بها مؤلم نفسيا وسياسيا. ولكن هل أبقت إسرائيل لإيران وحزامها الحارس وحجاباتها المتساقطة الكثير من الخيارات؟
العرب