تحدي البقاء على قيد الحياة

العالم العربي يواجه كماً غير مسبوق من التحديات. الاقتصاد، الصحة، التعليم، العلم، المعرفة، جميعها تحديات تفرض نفسها على ما يزيد على 470 مليون عربي بدرجات متفاوتة. وكأن ما سبق من تحديات لم يكن كافياً، فإذ بالصراعات والحروب واتساع رقعتها واستمرار بعضها لأعوام وعقود لا تفرض تحدياً عادياً يتعلق بالرفاه أو الصحة النفسية مثلاً، بل يهدد البقاء على قيد الحياة.

لذلك، حين يطل علينا تحد إيجابي، قادر على تحويل الهزائم إلى انتصارات، والانكسارات إلى انجبارات، وضيق الأفق إلى آفاق لا حدود لها من العلم والثقافة والمعرفة، فإنه يعني الكثير.

"تحدي القراءة العربي"، هذا المشروع الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لنشر ثقافة القراءة، وترسيخ أهميتها وقيمتها لدى كل طالب وطالبة في العالم العربي، ليس مجرد مبادرة لتشجيع النشء على القراءة والاطلاع والمعرفة، وعدم اقتصار العلم على المناهج الدراسية والفصول في المدارس. هو أكبر وأبعد من ذلك بكثير.

التزام ما يزيد على مليون طالب عربي بالمشاركة عبر قراءة 50 مليون كتاب خلال كل عام دراسي لا يعني أن مليون طالب قرأوا ملايين الكتب، لكن يعني أن مليون أسرة عربية تعرضت وخاضت تجربة القراءة والمعرفة. حين يقرأ الصغير ويتعلم ويستفيد، فإن أسرته تقرأ وتتعلم وتستفيد. حتى لو كان الأهل يعانون الأمية، أو ابتعدوا عن منظومة القراءة، فإن أجواء القراءة وثقافتها تفرض نفسها على البيت كله.

في دورته الثامنة هذا العام، سجل التحدي أرقاماً قياسية، وذلك بمشاركة ما يزيد على 28 مليون طالب من 50 دولة، يمثلون نحو 229 ألف مدرسة. الفائزون ليسوا فقط من حازوا على لقب "بطل تحدي القراءة العربي"، وكذلك من فازوا في فئات "أصحاب الهمم" و"المدرسة المتميزة"، "والمشرف المتميز" و"بطل الجاليات". الفائزون هم الـ28 مليون طالب، والـ28 مليون أسرة، وملايين المدارس الملتحقون بها، والملايين من الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران المحيطين بأبطال تحدي القراءة.

القراءة ليست موهبة، بقدر ما هي تنشئة وتربية وتشجيع وتعليم وتدريب ومداومة. إنها أداة تعزيز العمليات المعرفية عبر قيامها بتدريب أدمغتنا. تعزز قدرتنا على التفكير النقدي، وتبني وتطور قدراتنا على المهارات التحليلية. تساعدنا على التفكير، وعلى حل المشكلات المعقدة. تقوي مهارات حل المشكلات، وتبني القدرة على إيجاد العلاقة بين الأحداث والمجريات واستخلاص النتائج المنطقية والعلمية، لا الخيالية أو الوهمية.

حين تم تدشين "تحدي القراءة العربي" في العام الدراسي 2015 ـ 2016، كان الهدف هو ترسيخ ثقافة القراءة باللغة العربية، وتطوير قدرات الفهم والتعبير بها. وينتج عن هذه الأهداف بالضرورة إثراء المحتوى المعرفي العربي، وبالتالي تعزيز مكانة اللغة باعتبارها لغة فكر وعلم وبحث وإبداع.

إضافة لكون القراءة وقاية وعلاجاً وفيتاميناً للقلب والروح والعقل، فهي الطريق إلى القوة الحقيقية. شعب لا يقرأ، أو يقرأ في فرع واحد فقط من فروع المعرفة، هو شعب ضيق أو محدود الأفق بالضرورة. ويتفاقم خطر الضيق والمحدودية، بتفاقم شعور الشعوب غير القارئة أو محدودة القراءة، بأن القراءة ليست مهمة، أو بأن ما تقرأه من فرع واحد من فروع العلم يكفي ويزيد.

من أبدع المصطلحات المستخدمة في "تحدي القراءة العربي" "الحراك القرائي". الحراك هو كل مظهر من مظاهر النشاط. هو مضاد للجمود. القراءة حياة، وحراكها ضمان لاستمرار الحياة كما ينبغي أن تكون.

الحياة كما ينبغي أن تكون لا مجال فيها للتعصب، أو التطرف، أو الجهل، أو الإصرار على أن يكون الصراع والعنف والحرب أسلوب معيشة. الحياة التي تليق بالبشر قائمة على العلم والمعرفة والابتكارات المفيدة للبشرية والتسامح، وكذلك القوة. وأحد منابع القوة يأتي من القراءة، سواء كانت قوة المعرفة، أو قوة الدولة المرتكزة على قدراتها العلمية والمعرفية وأيضاً العسكرية التي تضمن لها الأمن والحماية.

نحتاج إلى تحديات إيجابية عدة لتخرج المنطقة مما هي فيه، ولتبقى على قيد الحياة التي تليق بها، و"تحدي القراءة" أحدها.

البيان الاماراتية

يقرأون الآن