داخل أحياء الخرطوم المدمرة وبين أنقاض الأحياء السكنية البائسة، تواصل الفئة الباقية من المواطنين هناك معركة لا تقل ضراوة عن أصوات الرصاص التي تحيط بهم. بعيداً عن خطوط القتال الأمامية، يخوض هؤلاء البسطاء، المغلوب على أمرهم، حربهم الخاصة من أجل البقاء، في محاولة يائسة للحفاظ على إيقاع حياتهم وسط ظروف قاسية لا تترك مجالاً للهروب أو الراحة.
في تلك المناطق، يستيقظ السكان كل صباح على أصوات الانفجارات، ليبدأوا رحلة شاقة للحصول على الماء والطعام. وبينما يلعب الأطفال بحذر قرب منازلهم المهدمة، تعد الأمهات وجبات بسيطة من موارد شحيحة، ويبحث الآباء عن مصادر لسد حاجات أسرهم. وفي المساء، ومع حلول الظلام بسبب انقطاع الكهرباء، تجتمع العائلات داخل منازل شبه منهارة أو في ملاجئ مؤقتة، متشبثةً ببصيص أمل أن تعود الحياة إلى طبيعتها يوماً ما.
في جنوب الخرطوم، حيث تسيطر قوات الدعم السريع، تبدو الحياة اليومية أشبه بنضال مستمر من أجل البقاء. انقطعت الكهرباء منذ مارس، مما ترك الأحياء غارقة في الظلام لأكثر من ثمانية أشهر. كما أصبح الحصول على المياه تحدياً مرهقاً مع ارتفاع تكلفتها إلى ألف جنيه سوداني لقربة الماء، والتي تعرف محلياً بـ"الجوز" وتستخدم لنقل المياه.
يعتمد السكان بشكل شبه كامل على "التكايا" لتأمين الطعام، بعد أن استنزفت الحرب مواردهم الضئيلة، وأغلقت سبل العمل.
في البداية، كانت "التكايا" توفر وجبة الإفطار فقط، أما اليوم، فتعتمد الأسر عليها لتأمين وجبتيها الرئيسيتين. وتقتصر أطباقها على وجبات بسيطة من عدس أو بليلة، وأحياناً معكرونة أو أرز مع بضع قطع من اللحم، في حين أصبحت تكلفة شراء رغيف الخبز عبئاً إضافياً، حيث يبلغ سعر الرغيف الواحد حوالي 200 جنيه سوداني.
وفي محاولات للتكيف مع قسوة الأوضاع، بدأت العائلات بإعداد "الكِسرة" في منازلها كبديل عن الخبز، لتقليل النفقات التي باتت تفوق قدراتهم، كما يؤكد أحد المواطنين لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت".
وضع صحي كارثي
أما الوضع الصحي فهو كارثي. مع انتشار الكوليرا وحمى الضنك، تحول مستشفى بشاير، الذي يديره لجان المقاومة بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود وأطباء متطوعين، إلى الملاذ الوحيد للمرضى. تعمل الطوارئ على مدار الساعة، وتجرى بعض العمليات الجراحية، لا سيما الولادة، مجاناً، لكن الأدوية والمستلزمات الطبية تظل محدودة. وللتصدي لتفشي الوباء، أنشأ المستشفى مركزاً خاصاً لمرضى الكوليرا، حيث أكدت مصادر طبية لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت" تسجيل أكثر من 170 إصابة مؤكدة، ويُعتقد أن العدد الفعلي أكبر بسبب عدم قدرة الكثيرين على الوصول إلى أماكن الرعاية الصحية.
ومع استمرار الاشتباكات بين الأطراف المتحاربة، يزداد الوضع الأمني سوءا، إذ يعاني السكان من تكرار القصف المدفعي وقصف الطيران والاشتباكات العنيفة، إضافةً إلى السرقات الليلية والنهارية، مما يبث الخوف والقلق في النفوس. بعض السكان لم يجد خياراً سوى البقاء وسط هذه الظروف، فيما حاول آخرون النزوح إلى مناطق أكثر أماناً، لكن ارتفاع أسعار الإيجارات في المناطق الجديدة جعلهم يعودون أدراجهم إلى الخرطوم، مفضلين المخاطرة بحياتهم على العيش في أوضاع اقتصادية لا تُحتمل.