يتصور أو يروج أو يعتقد البعض فى منطقتنا العزيزة أن أصوات الأمريكيين من أصول عربية، وكذلك أصوات الأمريكيين المسلمين فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية أسقطت هاريس وعاقبت بايدن ووجهت ضربة قاصمة للحزب الديمقراطي!
وهذا ما تلخصه عبارة عبقرية باللغة الإنجليزية، وهى Wishful thinking أى التفكير الرغبى، أو التفكير بالتمنى. رأيى أن هؤلاء يتمنون أن يكون العرب / أو المسلمون قد فعلوا فعلاً عظيماً، وأنجزوا إنجازاً فريداً، وأبلوا بلاءً رائعاً، وأسقطوا كامالا هاريس والحزب الديمقراطى، وأنجحوا دونالد ترامب والحزب الجمهورى، وكأنه معروف عن الحزب الجمهورى تبنيه لقضايا المنطقة، وإيمانه بالحق الفلسطينى، وحبه وعشقه للحق والخير والجمال.
وكأن أيضاً رؤساء أمريكا السابقين من المنتمين للحزب الديمقراطى أثبتوا عبر التاريخ أنهم أعتى من دافع عن القضية الفلسطينية وأروع من رفع راية حق الفلسطينيين فى وطن، ثم جاء بايدن، وبالضرورة هاريس، ليصدما المنطقة العربية بالتخلى عن القضية، أو التقاعس عن تحرير القدس، أو دعوة "حماس" للبيت الأبيض ليعرفوا مطالب الحركة للمساعدة على تلبيتها.
فى كل مرة تجتاح هذه المشاعر البعض، ويغرق فيها حتى الثمالة، ويصدقها لدرجة أنه يبدأ فى سردها على مسامع المحيطين، أتذكر زيارة الرئيس السابق باراك أوباما لمصر فى 2009.
كان والفريق الضخم فى إدارته، يعى تماماً كيف يدغدغ مشاعر المصريين وكذلك العالم العربى والإسلامى. ورغم أنه حين تحدث عن خبرته الشخصية مع الإسلام، لم يقل أكثر من أن والده ينتمى إلى أسرة كينية "كان بينها مسلمون"، وأنه أمضى سنوات من طفولته فى إندونيسيا، حيث كان يسمع أذان الفجر، لكنه لم يتحدث عن حلاوة حياته فى ظل الإسلام أو روعة عمله مستظلاً به، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه ليس مسلماً.
والأهم من ذلك، أنه، حتى لو كان مسلماً، فإن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، باستثناء دغدغة مشاعر من يظنون أن خانة المعتقد فى المجتمعات المرتكزة على المصالح السياسية والغايات الاقتصادية والمنافع الاستراتيجية ستقلب الموازين وتزلزل القوانين وتقرب البعيد وتبعد القريب.
قلب الموازين يأتى بناء على عمل وجهد وتخطيط تقوم به جماعات ضغط، وما يسمى بـ"اللوبى" وهو ما نجح فيه آخرون على مدار عقود.
فاز ترامب وانهزمت هاريس لأسباب تتعلق بشعور الطبقة العاملة فى أمريكا أن إدارة الحزب الديمقراطى، سواء سنوات حكم الرئيس بايدن أو من محتوى حملة هاريس الانتخابية، تخلت عنها وعن مطالبها ومشكلاتها.
جانب غير قليل من هزيمة هاريس والحزب الديمقراطى يتعلق بعدم رضا شعبى عن الأداء على صعيد ملفات داخلية أبرزها مصاعب المعيشة، والشعور بالفروق المادية الشاسعة بين الطبقات، وارتفاع أسعار العلاج والأدوية، وملف السكن، والعبء المادى لرعاية الأطفال وغيرها.
بالطبع هناك أسباب لوجيستية أخرى تتعلق بالرئيس بايدن، وإهدار الوقت الثمين فى تمسكه بالترشح قبل أن يعلن تراجعه، وهو الوقت الذى كان يمكن أن يستثمره الديمقراطيون فى اختيار مرشح قوى مناسب، وفى التخطيط لحملة انتخابية تصل مباشرة إلى الناخبين، وتكون قائمة على وعود ستتحقق حال الفوز من شأنها أن تحسن من معيشتهم وتحقق أمنياتهم، وليس كما فعلت حملة هاريس التى اعتمدت على تشويه ترامب، والتحذير منه، والاكتفاء بالتأكيد على أنها المرشح الأفضل لمجرد أنها ليست ترامب!
فى تلك الأثناء، كانت ملحمة طبيبة كفر الدوار تتشكل وتتكون وتتدحرج ككرة الثلج. نجحت "الطبيبة" (إن صح المسمى) فى أن تثبت أن التريند فكرة، وأن الفكرة لا تموت، بل تنشطر لتخرج منها المزيد من "التريندات"، ويا بخت من نفع واستنفع.
الميزة الوحيدة فى أسطورة الطبيبة هو أنها تعرى ما يجرى فى المجتمع وتهيمن عليه من أفكار، وتسيطر على مفاصله من مفاهيم، وتحكم قبضته على عقوله وقلوبه من أمراض.
عكس كثيرين، لم أتعجب أو أشعر بصدمة من المحتوى الذى أتحفت به الطبيبة شعب السوشيال ميديا. انهيار التعليم على مدار عقود، وتجريف العقول، وترك شرايين الناس نهباً لجماعات متخلفة أو مجرمة، وإهمال الثقافة والفن والجمال، وغيرها من توليفة انهيار قيم الشعوب، ولو بدا هذا الانهيار وكأنه تدين جميل أو ميل للمحافظة لا يعنيه سوى المظهر جميعها يتجسد فى محتوى الطبيبة، وفى الكثير من ردود فعل شعب السوشيال ميديا.
ومنذ تُرِك حبل التخصصات على غارب الأثير، ومنذ سُمِح للطبيب أن يكون رجل دين، وللسباك أن يدعى أنه مهندس (مع كامل الاحترام للسباكة وأهلها)، وللمعلم أن يكون مقاول أنفار خصوصياً، ولمن أدت العمرة مرتين أن تعود داعية دينية لها أتباع وبهاليل، وللناشط أو الخامل السياسى أن يكون مذيعاً أو منظراً سياسياً أصبحت الخلطبيطة سمة حياة، والفوضى غير الخلاقة مستساغة ولها جمهور عريض.
الهدم سهل، والبناء صعب، لكن ليس مستحيلاً. أمل كبير معقود على مبادرة "بداية جديدة لبناء الإنسان المصرى"، ففى نجاحها حياة.
الوطن