تكامل وتنامي الأدوار الدستورية من سمو الأمير إلى سمو الأمير الوالد

الأحداث الكبرى في حياة الشعوب تستوجب قراءة ما وراء الحدث، والوقوف على المعاني والدلالات، التي تؤشر إلى الحقائق والدروس المستفادة، وفي إطار هذه الرؤية يمكن تأمل مسار التحولات والتطورات الدستورية في دولة قطر.

في هذا السياق أرى أن ما جرى من تفاعلات حيوية في الشارع القطري في أثناء وبعد التصويت الشعبي على التعديلات الدستورية لا يمكن اعتبارها حدثا عابرا يتناوله الناس وأجهزة الاعلام تناولا سريعا عابرا، ثم يطويه النسيان.

ما جرى صنع تاريخا، يضع بصماته ونتائجه في الحاضر والمستقبل، وهو نتاج رؤية، وجاء في سياق تطورات إيجابية متسارعة شهدتها قطر بالأمس وتشهدها حاليا، ما يعني أهمية ربط الأحداث وقراءتها في سياقها التاريخي.

من التاسع والعشرين من شهر أبريل سنة 2003 إلى الخامس من نوفمبر 2024 تبدو طبيعة القواسم المشتركة وتكاملية الأدوار القيادية الدستورية التي اتسمت بها مسيرة النهضة والتحديث في قطر.

حاليا، هاهي الثمار تبدو جلية وواضحة للعيان في التفاعل الشعبي الباهر مع القيادة الحكيمة من خلال استجابة المواطنين اللافتة لدعوة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، للمشاركة الشعبية في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 5 نوفمبر 2024.

* نتيجة الاستفتاء جاءت لتعكس عددا من الحقائق، في صدارتها أن الشعب القطري الذي قال "نعم" للتعديلات الدستورية بنسبة تصويت بلغت 90.6 في المائة قد رسم بتفاعله المدهش مجددا خريطة تلاحم رائعة السمات بين القيادة والشعب.

من أهم معاني "نعم" القطرية للتعديلات الدستورية أنها استفتاء شعبي داعم لتوجهات القيادة وسياساتها، وتفويض دستوري جديد لقائد المسيرة ليواصل بقوة وعزيمة وبمؤازرة شعبية طريق البناء الشامل، في إطار وحدة وطنية متماسكة البنيان.

* في هذا السياق فإن دعوة سموه المواطنين للمشاركة في الاستفتاء تعني حرصه على المشاركة الشعبية في البناء الدستوري، وهنا لابد من الاشارة إلى أن سموه لم يقم بالموافقة على التعديلات بعيدا عن شعبه أو بقرار فوقي، بل دعا الشعب ليقول رأيه في هذا الشأن، رغم أن المادة 144 من الدستور الدائم تتيح له ولمجلس الشورى الموافقة على التعديلات.

كانت هذه المادة تنص قبل التعديلات الدستورية على أن "لكل من الأمير ولثلث أعضاء مجلس الشورى حق طلب تعديل مادة أو أكثر من هذا الدستور، فإذا وافقت أغلبية أعضاء المجلس على التعديل من حيث المبدأ، ناقشه المجلس مادة مادة. ويشترط لإقرار التعديل موافقة ثلثي أعضاء المجلس. ولا يسري التعديل إلا بعد تصديق الأمير عليه ونشره في الجريدة الرسمية".

* هذا يعني أن سمو الأمير سعى ويسعى دوما إلى تعزيز قيم المشاركة الشعبية، والعدالة، وترسيخ مرتكزات المواطنة المتساوية، ولعل مشاركة كل من يحمل جنسية قطرية في الاستفتاء قد عبرت عن هذه التوجه الوطني المهم، الذي يرسخ دعائم الوحدة الوطنية، بمشاركة الجميع رجالا ونساء، وبين هؤلاء الشباب من الجنسين، وهم عماد الحاضر وبناة المستقبل.

وفي سياق تناولي لدلالات الاستفتاء في مرحلتين، فإن من المهم الربط بين ما جرى في عام 2003 وعام 2024 بشأن الموافقة الشعبية أولا على الدستور الدائم، ثم الموافقة الشعبية على التعديلات الدستورية.

التاريخان يعكسان حدثين تاريخيين وأيضا حقائق مهمة، في صدارتها أن القيادة التي تستفتي الشعب في مسائل دستورية ترسل رسالة مهمة مضمونها أن الشعب هو صاحب الكلمة العليا للبت في قضاياه وأولوياته الكبرى، وخصوصا الدستورية.

* في 2003 انطلقت مواكب القطريين للإدلاء بأصواتهم في أول استفتاء من نوعه على الدستور الدائم، إذ دعا صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الشعب للمشاركة في الاستفتاء فكانت النتيجة كما قال سموه آنذاك "موافقة الغالبية العظمى من المواطنين على هذا الدستور"، وقد شكل ذلك حدثا تاريخيا هو الأول من نوعه في تاريخ دولة قطر.

نعيد للأذهان أن النهج الإصلاحي الشامل يشكل قاسما مشتركا بين سمو الأمير الشيخ تميم وسمو الأمير الوالد، وقد وجاء الدستور الدائم الذي أصدره الأمير الوالد في الثامن من يونيو 2004 كأول خطوة من نوعها في تاريخ قطر، بعدما تمت الموافقة عليه باستفتاء شعبي هو الأول من نوعه، ونص ضمن أبوابه الخمسة على أسس الحكم وكيفية تنظيم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحقوق والواجبات، ومن أهم مضامينه أنه شدد على (المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار) أي أن خطوة سمو الأمير الشيخ تميم بالدعوة للاستفتاء جاءت كخطوة عملية جديدة لترسيخ مبدأ المشاركة الشعبية ومرتكزاتها.

* أشير في هذا الإطار إلى أن سمو الأمير الوالد كان قد خطا خطوة مهمة بإصداره قراراً في 13 يوليو 1999 بتشكيل لجنة لإعداد الدستور من (32) عضواً وضمّت مفكرين وأكاديميين وخبراء، وهذا أيضا يعكس البعد الشعبي في صناعة الحدث الدستوري.

وأعيد للذاكرة أيضا ما شدد عليه سمو الأمير الوالد في خطابه التاريخي في عام ١٩٩٩ بمناسبة تشكيله لجنة إعداد الدستور، إذ قال "الدستور هو الوثيقة الأساسية التي يجب أن تتضمن المبادئ الجوهرية الموجهة لسياسة الدولة في مختلف المجالات، وتنظيم سلطاتها، ونظام الحكم فيها، وتحديد الحقوق والواجبات العامة". وكان البعد الخليجي والعربي والإسلامي بارزا في خطابه إذ أكد على ضرورة أن "يكون الدستور مبنيا على واقع الانتماء الخليجي والعربي والإسلامي".

* في خضم هذه التفاعلات والتطورات التاريخية فإن من المهم التشديد مجددا على أن الشعب القطري تفاعل في مشاهد غير مسبوقة مع دعوة سمو الأمير الشيخ تميم بالمشاركة الفاعلة، إذ شارك بكثافة لافتة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي تهدف إلى العدالة والمساواة والحقوق المتساوية للقطريين.

وبمقارنة نتيجتي الاستفتاء في عام 2003 وعام 2024 نجد أن نتيجة الموافقة في الحدثين تمت بموفقة الغالبية العظمى للشعب، فكانت في الاستفتاء الأول 96.6 بالمائة، وفي الحدث الحالي الثاني 90.6 بالمائة، والنسبتان تعبران عن تفاعل شعبي بمعدلات عالية، وكان الديوان الأميري وصف التفاعل الشعبي في استفتاء التعديلات الدستورية بأنه "تظاهرة الوحدة الوطنية".

* التحية مستحقة لمن فتح آفاق المناخ الجديد، وأتاح للشعب فرصة صناعة حدث اليوم وهو سمو الشيخ تميم، والتحية المستحقة لسمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة الذي شكل لجنة وطنية من أهل الخبرة والكفاءة لوضع دستور دائم، ثم أصدر قرار صدور الدستور الدائم في الثامن من يونيو 2004، فانطلقت مسيرة دستورية أضفى عليها سمو الأمير تميم تجديدا وتحديثا بصوت الشعب وموقفه.

هكذا تبدو كما أرى بعض أهم ملامح التطورات الدستورية على خريطة دولة قطر، إذ تكاملت وتتنامى الأدوار الدستورية من حمد إلى تميم حفظهما الله.

يقرأون الآن