تتكالب على لبنان الآن نوائب حرب إقليمية مصغرة حُشر فيها حشراً، وملمات صراع تراكمت مفاعيله. ما لمثل هذا الدمار والخراب وُجد لبنان، بل للسلام والتصالح والتعايش والمحبة والتسامح والأمان، وللجمال والفن والفكر والثقافة. بلدٌ يشبه الفسيفساء في تكوينه الاجتماعي المتعدد. كان نموذجاً للعيش المشترك في وطنٍ واحد يعلو الانتماء إليه كلَّ شيء. ونجد تعبيرات شتى عما كان عليه هذا الوطن في زمن مضى، وما آل إليه حاله في العقود الأخيرة، في أعمال فكرية وفنية وأدبية. ومن أهمها بعض أغاني الفنانة الكبيرة فيروز، التي بلغت قبل أيام عامها التسعين، وتعذر على اللبنانيين الاحتفال بهذه المناسبة، إذ طغت أصوات القذائف المدمرة على ما عداها.
ومع ذلك ليتنا نتأمل بعض أغانيها الجميلة للبنان، ومن أجل وطن ينبغي أن يُقَدَّم على أية انتماءات دينية أو طائفية، وأن يُحمى من أخطار الصراعات والحروب. غنَّت للبنان الوطن: "وطني.. يا جبل الغيم الأزرق/ وطني.. يا قمر الندى والزنبق/ يا بيوت اللي بيحبونا/ يا تراب اللي سبقونا". وعبّرت عن خوفها عليه في الأغنية نفسها: "وطني يا دهب الزمان الضايع/ وطني من برق القصايد طالع/ أنا على بابك قصيدة/ كتبتها الريح العنيدة.. يا وطني".
ومن أغانيها غير الشائعة التي يظهر فيها جمال الحياة الطبيعية في لبنان، حيث السلام والمحبة والتسامح، وقُبح الصراعات والصدامات، أغنية "رجعت العصفورة"، التي تقول في بدايتها: "رجعت العصفورة تُعشّش بالقرميد/ والسوسنة رجعت تزهر من جديد/ رجعت المدارس.. أطفال وتلج وعيد". وتنتقل إلى تبيان ما يحدث عندما تغيب هذه الحياة تحت وطأة الصراعات والحروب: "قالوا كتير وكتبوا كتير.. قالوا تهدّم وطن الهدير.. وطن الزمان اللي علّم وبنَى.. وبكيت الدّني.. بكيت الدّني". غير أن كلمات الأغنية لا تنتهي هنا، بل عند الأمل في استعادة حياة اللبنانيين السلمية الجميلة: "لكن رح نرجع.. رح نرجع من حرايق.. رح نرجع من شوارع هدَّمتها المدافع.. رح نرجع". وعندئذ يأتي، أو بالأحرى يعود، لبنان: "لبنان الحقيقي جاي/ لبنان البساطة جاي/ يشيل الوجوه المصبوغة/ والوعود المدموغة/ يا وطني العظيم يا وطني/ نهر الفرح والِع/ وبضو الفجر الطالع.. تتوهّج الحياة".
يسمع العرب في كل مكان أغاني فيروز، ولا يعرفون بأي دين تدين، ولا إلى أية طائفة تنتسب. كل ما يعرفونه عنها أنها فنانة رائعة تجمع في فنها اللبنانيين كلَّهم في وطن ينبغي أن يكون هو الأول قبل كل شيء، ولكن بعضهم لا ينصت جيداً لأغنيتها التي تقول كلماتُها: "الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقل فيها الدين/ والويل لأمة مقسمة وكل ينادي أنا أمة".
وفيروز هي أيضاً التي سبقت الجميع إلى تحية الجيش الوطني اللبناني الذي حفظ، ومازال يحفظ، وحدة لبنان، إذ غنت له في عام 1962: "معافى يا عسكر لبنان يابو زنود المسمية/ وتتغاوى أرزة لبنان فوق جبال الحرية..". إنها فيروز.. فتحية لها في تسعينها.
الاتحاد