بدأت حسابات ما يُسمى "الفريش دولار" تشكل ظاهرة ولو محدودة الحجم في المصارف اللبنانية. فهذه الظاهرة التي نشأت على هامش الأزمة المصرفية الراهنة بعدما تعذّر على اصحاب الدولارات التي أودعت في المصارف قبل الإنهيار سحبها بأوراق نقدية أميركية أو تحويلها إلى الليرة اللبنانية بسعر السوق الموازية، كانت محاولة من مصرف لبنان لتحريك الجمود الاقتصادي وتسهيل عبور السيولة الى المواطنين، عبر إصدار التعميم (150) والذي أجاز للمصارف من خلاله فتح حسابات منفصلة وحرة بـ "الفريش دولار" لزبائنها، لتلبية حاجاتهم بالعملات الأجنبية، بعيدا من القيود المفروضة على حساباتهم الأصلية بحكم الأمر الواقع ومن دون سند قانوني. فهل يمكن التعويل على هذه الودائع بصفتها نظاما رديفا أو بديلا من النظام المصرفي المنهار؟
عندما أعلن وزير المال السابق علي حسن خليل في أيلول 2019 أن ثمة ضرورة لإعادة هيكلة الدين العام وجدولته بالتنسيق مع المصرف المركزي والمصارف، بدأت علامات الاستفهام تظهر حيال قدرة الدولة على دفع استحقاق تشرين الثاني 2019 من اليوروبوندز. في ذلك الوقت كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وعدد من كبار المصرفيين اللبنانيين في واشنطن لمتابعة اجتماعات صندوق النقد والبنك الدولي، وكان تأكيد من الحاكم خلال هذه الاجتماعات بأن "المركزي" سيدفع استحقاق اليوروبوندز عن الدولة ويسجله ديناً عليها. وفعلاً في تشرين الثاني دفع استحقاق اليوروبوندز، وارتاح القطاع المصرفي لتسديد هذا الاستحقاق. ثم بدأ الحديث والتوقعات عن استحقاق آذار 2020، يومها ايضا كان ثمة تأكيدات من الحاكم أن الاستحقاق سيُدفع وتاليا لا داعي للخوف. ولكن على رغم طمأنة الحاكم بدأت الرساميل بالخروج من لبنان على خلفية التسريبات التي كانت تتخوف من تخلّف الدولة عن دفع الاستحقاق، الى ان جاء اعلان رئيس الحكومة حسان دياب في آذار 2020 بالتخلف عن السداد لينسف كل خطط مصرف لبنان في هذا الاطار، على اعتبار أنه عندما يخرج قرار حكومي بعدم تسديد الدين فإن مصرف لبنان ليس في مقدوره نقضه، لأن السندات دينٌ على الدولة وليس عليه. في حينه كان احتياط مصرف لبنان من العملات الاجنبية يقدَّر بنحو 33 مليار دولار، أما الاستحقاق الذي تخلفت الدولة عن دفعه فيقدر بمليار ونصف مليار دولار فقط، في حين أن كل استحقاقات اليوروبوندز لعام 2020 كانت تعادل ثلاثة مليارات دولار.
وقد ادى التعثر غير المنظم وعدم محاولة التواصل مع الدائنين، مثل صناديق الاستثمار العالمية، أو الدائنين في الداخل، الى اتخاذ المصارف المراسلة قرارات بفرملة التعامل مع المصارف اللبنانية، كما أدى ذلك الى خفض التصنيف الائتماني للبنان ومصارفه. في هذا الوقت، كان بعض المصارف ينتظر تحويلات من الخارج الى حسابات مصرفية في لبنان، وكان ثمة زبائن كثر يودعون أموالهم نقداً في المصارف، خصوصا الجاليات اللبنانية في افريقيا ودول الخليج. وتحسباً لهذا الامر، اصدر مصرف لبنان في 9 نيسان 2020 التعميم الاساسي 150 الذي أسس بموجبه للودائع "الفريش"، إذ خوّل بموجبه للتحاويل أو الايداعات النقدية من بعد تاريخ 9 نيسان 2020 أن توضع في حساب "فريش" يمكن للعميل التصرف بها أو تحويلها الى الخارج. ثم عاد وعدّل هذا التعميم وطلب من كل مصرف ان يضع مقابل الوديعة في لبنان مؤونة تساوي قيمة الوديعة 100% في المصرف المراسل. أهمية التعاميم التي أصدرها الحاكم أنها أسست لحياة جديدة في القطاع المصرفي، فبدأت ودائع "الفريش دولار" تشكل ظاهرة ولو محدودة الحجم في المصارف، وفق ما يقول الخبير المصرفي الدكتور غسان العياش الذي أوضح أن "إيداعات "الفريش" لم تنشأ بقرارات حرة من زبائن المصارف ولا هي نوع من أنواع الاستثمار، بل كانت نتيجة الحاجة للتداول بالنقد الأجنبي مع تعذر استعمال الودائع الأصلية. ولذلك فإن هذه الودائع لا يتوقع أن تنمو بشكل كبير لأن أصحابها يودعون الأموال فيها في حدود حاجتهم الضيقة إلى النقد الأجنبي، وهي تتغذى بشكل رئيسي من تحويلات غير المقيمين التي بلغت نحو 6.5 مليارات دولار السنة الماضية".
هذه الودائع النقدية بلغت، بحسب مصادر مصرف لبنان، أقل من ملياري دولار، "أي أقل من 2% من مجموع ودائع المصارف بالعملات الأجنبية، ذات المصير المجهول إلى حين إنجاز خطة تعاف تتبناها الحكومة، وهو أمر لا يزال بعيد المنال"، وفق العياش الذي يستبعد أن تتحول ودائع "الفريش" إلى نسبة كبيرة من الودائع بالعملات قبل أن تستعاد الثقة بالنظام المصرفي والنظام المالي ككل، فيجرؤ الزبائن عندها على تغذية هذه الحسابات بالعملات من دون أن يخافوا من تحوّلها إلى أموال وهمية أو دفترية مثل الأموال المودعة قبل الإنهيار الراهن. وعودة الثقة مسألة طويلة وهي لا تقتصر على الثقة بالنظام المصرفي بل بالنظام السياسي ككل وبالإدارة السياسية والاقتصادية للبلد.
ويؤكد أنه "من المبكر جدا أن نعوّل على هذه الودائع بصفتها نظاما رديفا أو بديلا من النظام المنهار، ومن المبكر ايضا التعويل عليها لتعويض تراجع النشاط المصرفي الذي أصيب بأضرار فادحة منذ الانهيار في خريف 2019".
بين حزيران 2019 وحزيران 2022، أي خلال ثلاث سنوات من عمر الأزمة، تراجعت التسليفات المصرفية للمقيمين بنسبة 57% بينها التسليفات بالعملات التي تراجعت بنسبة 67%، وتراجعت ودائع المقيمين بنسبة 24%. أما مجموع ميزانية المصارف ككل فتراجعت بنسبة الثلث في هذه السنوات الثلاث. وفي سنة واحدة، من حزيران 2021 إلى حزيران 2022، تراجعت موجودات المصارف بنسبة 6% والودائع بنسبة 7% والتسليفات للزبائن بنسبة 25%، وبلغ انكماش ودائع المقيمين نسبة 24%، أي، بتعبير آخر، تراجعت ودائع المصارف في السنوات الثلاث المنصرمة بنسبة الربع بينها نسبة 7 بالمئة في عام واحد.
هذه الكوّة في النظام المصرفي، برأي العياش، "لبّت بعض الحاجات الضرورية لمودعي المصارف، وقد نشأت عن تدابير مصرف لبنان التي فصلت الودائع الجديدة عن الودائع القديمة. ومسودة مشروع قانون الكابيتال كونترول، التي تغيّرت مرات عدة من دون أن تحظى بمصادقة المجلس النيابي، هذه المسودة حرصت في مواد عدة على احترام خصوصية الودائع الجديدة. وربما كان القصد من ذلك طمأنة المودعين إلى أن الودائع الجديدة مصانة ولن تلقى المصير البائس للودائع القديمة، والنيّة الضمنية وراء هذا التطمين ربما التشجيع على خلق وتطوير هذا النظام الجديد بشكل يحصر المشكلة في الودائع القديمة علّها تصبح مع الوقت أسيرة النسيان".
النهار