"الدوام لله وحده" عبارة موجزة لو أدركها البشر لهانت فى عيونهم الصعاب وزال من أمامهم ذلك الضباب الذى قد يحجب الرؤية ويجعل الإنسان ابن لحظته، لا يرى ما قبلها ومابعدها، يتصرف بانفعال وينظر بقلق ويفكر بعصبية، وينطبق ذات الأمر على سياسات الدول وعلاقاتها المختلفة، حيث يظل أحيانًا صانع القرار ـ على أى مستوى ـ حبيس الضغوط التى تمارس عليه والمخاطر التى تحيط به وتؤدى إلى تجزئة الموقف واستبعاد الرؤية الشاملة التى تنتقل من العام إلى الخاص كى تعطى الصورة الدقيقة للموضوع وتسمح لصاحب القرار باتخاذ الإجراء الصحيح الذى يبتعد عن الانفعال والمبالغة وتهويل الأحداث أو التهوين منها، أقول ذلك فى ظل هذه الظروف الصعبة المحيطة ببلادنا شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا وامتدادًا من حوض النيل إلى حوض البحر المتوسط، فعلى الإنسان أن يدرك دائمًا حتى على المستوى الفردى أنه كلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج، فمثلما تأتى المشكلات جماعات فى وقت واحد فإن الحلول أيضًا لا تأتى فرادى ولكنها قد تأتى مجتمعة لتقول للإنسان "كل شىءٍ بقضاء، ما بأيدينا خلقنا تعساء"، ولكنها الأيام والليالى والأزمنة الخوالى، تعلم المرء كل يومٍ جديدًا وتجعل التجربة وخصوصًا الأخطاء فيها مدارس فكرية ونفسية يحوز بها البشر قدرًا كبيرًا من الحكمة والحصافة والقدرة على استنباط صواب الرأى وسلامة التقدير، ولقد خرجت من سنوات عمرى حتى الآن بعدد من النتائج والأفكار يمكن أن أستخلصها فيما يلى:
أولاً: إن عوامل الزمن محور أساس فى حياة البشر فما قبلته أمس قد تستهجنه اليوم، وما تفكر فيه اليوم قد ترفضه فى الغد، إذ إن هناك بعدًا جديدًا للبشر والمواقف والأشياء يتركز فى تغيرات الزمن التى تجعل الحدث الواحد مختلفًا من وقتٍ لآخر، ولذلك فإننى مؤمن بأن الإنسان ابن ظروفه وأن إرادته مقيدة بما يدور حوله وما يرتبط به، والذين قالوا إن الفلسفة أم العلوم لم يكونوا مخطئين، فالفلسفة هى الركيزة القوية لبعد الزمان التى تجعل الاختلاف فيه نتيجة طبيعية لإعمال عنصر الزمن فى الشأن الذى تمضى عليه أواصر البشر تحمل أثقالاً من الهموم والشجون وأيضًا من أسباب السعادة ومظاهر الفرح، لذلك فإننى أتذكر كثيرًا صاحب الوضعية المنطقية الفيلسوف المصرى الراحل د.زكى نجيب محمود.
ثانيًا: إن العلاقة بين العلم والإيمان ليست علاقة متنافرة بل هى كما أوضحها كثيرًا الزاهد المصرى د.مصطفى محمود هى علاقة انسجام وتناغم وليست علاقة قطيعة وتباعد، وأنا أزعم الآن - بعد تجارب العمر وخبطات الزمن - أن الإنسان المؤمن أفضل لنفسه وغيره بل للبشرية كلها من آخر يفتقد الإيمان ويسبح فى بحر الظلمات، يضرب فى الأرض بلا وعى ولا هوية، لذلك فإن تيار الإلحاد الذى نشهده حاليًا فى بعض الدول هو تعبير عن حالة اليأس مقترنة بضيق الأفق وانعدام القدرة على إعمال العقل فى واقعية شديدة، فلو تاه اثنان فى الصحراء، أحدهما مؤمن والآخر ملحد، فقد تدوم الحياة لصاحب الإيمان بينما تتوقف حياة الآخر الذى لا إيمان له، لأنه فقد الأمل فى البقاء نتيجة الفراغ العقائدى الذى يحتويه، وأنا شخصيًا مصرى الهوية مسلم الديانة، ولكننى أنظر إلى الأديان الأخرى بكل التوقير والاحترام، وهكذا وجدنا آباءنا يفعلون، كما أن العروبة تمثل لى ركيزة ثقافية تستكمل ملامح الهوية وتضرب فى أعماق الذات من كل اتجاه.
ثالثًا: إن التفاوت بين البشر حتى مع ثبات عامل الزمن يبدو أمرًا مثيرًا للدهشة والتأمل، فماهو مقبول لدى جماعة معينة قد يكون مرفوضًا لدى الأخرى، وحتى على مستوى الأمم فإن ما تقبله بعض الشعوب قد ترفضه شعوب غيرها، ولا يمكن لأحد تفسير ذلك، إلا أننى أظنه ذلك التاريخ الاجتماعى المتواتر على مر الأزمنة والأحقاب، والذى تتشكل منه الرؤية المعاصرة للمجتمعات المختلفة، حيث تتباين مساراتها التاريخية وأحوالها المعيشية، فالإنسان ابن بيئته ونتاج الظروف والعادات والتقاليد المحيطة به والمناخ الفكرى والاجتماعى الذى تربى فيه، حتى إن درجات التحمل تختلف من شعبٍ إلى آخر فالتنميط سنة الحياة والاختلاف طبيعة البشر.
هذه شذراتٌ من لحظات تأمل ولكنها تصب فى الواقع الذى نحياه، لأننا جميعًا مدعوون للمشاركة فى التفكير حول المستقبل، وهو ما يقتضى الإلمام بالكثير من العناصر والعوامل التى تشكل الأبعاد المختلفة للرؤى البشرية التى نتعامل معها والآفاق المحتملة أمام الأجيال الجديدة التى نعمل من أجلها ولانسعى إلا لصالحها أملاً فى غدٍ أفضل، فى ظل كل المشكلات وكل الحلول وأيضًا كل الأزمات والانفراجات.