إيلون ماسك.. نائب رئيس الظل

على بُعد أقل من شهرين من الرئاسة الأميركية الجديدة، يبدو أن أحد أهم الأسئلة المطروحة على موائد النقاش في الداخل الأميركي، موصول بالفتى المعجزة الملياردير إيلون ماسك، ذاك الذي انتقل من مربعات الخصوم لترامب إلى خانة أقرب الحلفاء وأوثقهم.

وربّما السؤال الأهم كيف للقدر أن يأتي بماسك إلى الدائرة الضيقة من حول الرئيس وهو الذي لم يمارس في حياته أي دور سياسي، بالضبط كما جرى مع ترامب نفسه، الذي دفعته سخرية باراك أوباما منه ذات مرة لخوض غمار سباق الرئاسة والوصول إلى البيت الأبيض مرتين.

يبدو ماسك، وكما يقول هنري كيسنجر في بعض تعليقاته عن الحياة السياسة الأميركية، إن فيها قضايا أشبه باللغز الملفوف في سر، ضمن أحجية ملقاة في بئر عميقة.

هناك بالفعل الكثير جدًّا من الشكوك التي تحوم حول رجل تسلا العبقري، وسبيس إكس المحلقة في أعلى علّيّين، وما إذا كان يمثل ذاته بالفعل، أم أنه مجرد أداة من ضمن أدوات الدولة الأميركية العميقة، وهو أمر مرجّح بعد ثبوت علاقة بمجمع الاستخبارات الأميركية والتعاون الثنائي بينهما عبر برامجه للتنصت وخدمة عملاء أميركا الخفيين خارج البلاد.

مرة أخرى: "هل سيكون ماسك مجرد منفذ لإرادة ترامب السياسية ومشروعاته الحكومية لأربع سنوات قادمة، أم أنه سيكون بدوره صانع سياسات ماورائي، وبصورة غير متوقّعة؟".

المؤكد بداية الأمر أن ماسك كان أحد أهم عوامل فوز ترامب بالبيت الأبيض، ليس فقط من خلال ضخّ 130 مليون دولار في حملته الانتخابية في الشهرين الأخيرين فحسب، بل وأيضًا من خلال تخصيص منصته "إكس"، كمكبّر صوت لشعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى".

أمّا خارج حدود الإنترنت والعالم الافتراضي، فقد مَوّل ماسك عمليات الدعاية والترويج للتصويت، ما ساعد في فوز ترامب بأصوات المجتمعات المحافظة بما في ذلك حتى الجماعات الأميشية (مجموعة مسيحية منشقّة) في بنسلفانيا.

يعرف الأميركيون جيدًا وفي سياق البراغماتية التقليدية التي تلفهم لفًّا، أن "من يدفع للجوقة هو من يحدد اللحن"، وعلى الرغم من أن ماسك حقق مكاسب مليارية بعد فوز ترامب، من خلال ارتفاع أسعار أسهمه في بورصات أميركا، إلا أن الجميع يقطع بأن جانبًا خفيًّا لا يزال قابعًا في المنطقة الرمادية ما بينه وبين ترامب، وما من أحد قادر على استكشاف ملامحها حتى الساعة.

هل سيكون ماسك هو أداة ترامب الحقيقية في سعيه لتغيير ملامح أميركا الظاهرة والخفية على حدٍّ سواء، وربّما تأكيد تنفيذ مشروع 2025، والذي يعرف بـ"المابعد ليبرالية"؟

الشاهد أنه في الوقت الذي أعلن فيه ترامب عن ترشيحاته لحقائب وزارية، أصدر إعلانا متوقّعًا بتشكيل إدارة يتقاسمها ماسك والجمهوري من أصول هندية، فيفيك راماسوامي، عنوانها "إدارة أو لجنة الكفاءة الحكومية"، وهو مصطلح غريب غير معروف أو مألوف في الداخل الأميركي من قبل.. ما هي مهمة تلك اللجنة؟

على الأقلّ ممّا هو ظاهر في العلن، وبعيدًا عن كشف المستور، تتمتع بسلطة التوصية بتخفيضات واسعة النطاق في الوكالات الفيدرالية وتغيير القواعد الاتحادية في طول البلاد وعرضها.

غير أن هناك جانبًا آخر في المشهد، وهو أن ماسك الذي يبرع في أعمال التجارة العالمية، ربما يكون هو رجل الساعة بالنسبة لترامب، وخاصة على صعيد المواجهة التي لن تنفك تضحى مجابهة مع الصين بنوع خاصّ.

من هنا يتبدى للناظر أن المهمة الرئيسة لماسك ليست إزاحة التقدميّين اليساريين من الديمقراطيين في الداخل الأميركي فحسب، ولكن أيضًا تأكيد توجهات جماعة المحافظين الجدد المعروفة باسم "القرن الأميركي"، وغالب الظن أن أفكاره تمثل الجسر الواصل بين هؤلاء، وبين جماعة التراث الأميركي القائمة على مشروع 2025 بكل أبعاده المغرقة في اليمينية.

لا يدري المراقبون حتى الساعة على وجه الدقة الأسباب التي دفعت ماسك لتغيير أوضاعه وتبديل طباعه من رافض لترامب، وعازم على ألا يقدم له دولارًا واحدًا لدعم حملته الانتخابية، إلى راقص قافز فوق مسارح الجولات الانتخابية، ما أكسب حملة ترامب ألقًا شديدًا.

هل هناك مخطّطات لماسك أقنع بها ترامب "غير المتوقّع"، وتخرج عن أنماط الهيمنة الأميركية التي يؤمن بها ترامب إيمانًا عميقًا، وتتقاطع بشكل إيجابي للغاية مع رؤيته لأميركا العظيمة ثانية، أميركا الاستثنائية التي يتوجب أن تقود العالم من جديد؟

بعض الاجتهادات التحليلية تلفت النظر إلى أن ماسك لديه أتباع متديّنون من الأميركيين الذين يعتقدون في أفكاره وتوجهاته المثيرة ولا نغالي إن قُلْنا الغريبة.

على سبيل المثال لا الحصر، يؤمن ماسك بضرورة استيطان كواكب أخرى كأمر ضروري إذا كان للبشر أن يتجنّبوا الانقراض بسبب اصطدام كويكب كبير بالأرض. ولطالما آمن أنصاره وخاصة من يمين الوسط وصولاً إلى اليمين المتشدد بفكرة "تمديد المصير الواضح" إلى الفضاء الخارجي، وربما لهذا كانت مشروعات ارتياد الفضاء في مقدمة مهام ماسك التي بدأ بها حياته في شركة "سبيس إكس".

على أن الأمر ليس بهذه السهولة أو السطحية فيما يخص ارتياد الفضاء، ذلك أنه رغم كافة الأفكار التي تعد من قبيل الخيال العلمي لاستيطان الفضاء، والتي تحدث عنها ماسك طويلاً جدًّا، ومنها إطلاق صواريخ نووية على المريخ لتحويله من كوكب قارس البرودة لا يصلح لحياة البشر إلى مكان ملائم عبر الدفء المطلوب، رغم ذلك يبقى هناك الحديث عن السيطرة على الفضاء الخارجي، حيث يتوقع أن تدور هناك معارك النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين.. كيف؟

الذين لهم دالة على العلوم العسكرية والاستراتيجية، يعرفون تمام المعرفة أن الولايات المتحدة الأميركية، ومن قبلها بريطانيا العظمى، إنما تمكنّا من فرض سيطرتهما الأمميّة وبلورة حضورهما القطبي، حين امتلكتا السيادة والريادة على البحار والمحيطات حول العالم.

اليوم يبدو أن من سيقدّر له الهيمنة على الفضاء الخارجي حول كوكب الأرض، يمكنه إدارة شؤون الخلق من فوق سبع سماوات طباقًا.

أيكون ماسك هو الرجل المكلف بإعادة أحلام الرئيس الجهموري رونالد ريغان الخاصة بحرب النجوم أو الكواكب؟

مؤكد أن ترامب كان قد أعاد فتح هذا الملف مرة جديدة خلال سنوات إدارته الأولى، والأكثر تأكيدًا هو أنه من فتى عبقري ملائم لإكمال هذه المسيرة الخاصة بعسكرة الفضاء أكثر من ماسك، وربما تكون قصة رفع الكفاءة الحكومية هذه مجرد ستار لإخفاء الأهداف الحقيقية للمهمّة الموكّلة إليه.

وفي كل الأحوال، يبدو ماسك نائب رئيس ظلّ لترامب، حيث يظهر في الصورة بأكثر مما يبدو النائب الفعلي "جي دي فانس"، على أهميته.

رأينا ماسك لاعبًا رئيسيًّا في حرب أوكرانيا حيث وفرت أقماره الاصطناعية اتصالات بالإنترنت لدعم جهود الحرب، كما اقترح بأن تتخلى أوكرانيا عن محاولتها الانضمام إلى الأطلسي، كما انضم إلى ترامب في مكالمة مع أردوغان في تركيا.

تقول النيويورك تايمز إن ماسك يسعى لتعيين موظفين من شركته الصاروخية كمسؤولين حكوميين كبار في وزارة الدفاع وغيرها من المواقع المتقدّمة والمهمة في إدارة ترامب.

هل سياسات أميركا الخارجية برًّا وبحرًا وفضاءً باتت موصولة بالفتى غريب الأطوار ماسك؟ وإذا كان ذلك كذلك فأيّ سياسات أميركية نتوقع؟

يقرأون الآن