للحفاظ على ما تبقى من الضفة الفلسطينية، أمام الاجتياحات الإسرائيلية المتتالية، وتضييق كامل سبل الحياة على الناس، والخنق الاقتصادي، وصولاً إلى استمرار زحف الاستيطان وغيره، ثمة معادلة سياسية على الأرض، تقضي بوقف ذرائع الاجتياحات الإسرائيلية أولاً، والتأكيد على قدرة السلطة الفلسطينية في الحفاظ على الأمن، وضبط مسألة السلاح الذي بقي لسنوات خارج إطار السلطة في الضفة، ونتج عنه منذ السابع من أكتوبر 2023 مقتل 812 فلسطيني "في الضفة" وجرح 6250 وبلغ عدد المعتقلين 10,091 ناهيك عن الدمار الهائل في البنية التحتية الفلسطينية أثناء الاجتياحات الإسرائيلية في مخيمات نابلس وجنين وطولكرم وغيرها.
الإشكالية القديمة الجديدة هي في موقف الفصائل الفلسطينية المحسوبة على محور إيران_حزب الله والتي منحت إسرائيل منذ ما بعد السابع من أكتوبر مبررات خنق الضفة الفلسطينية، التي كان يغادرها يومياً قرابة 230 ألف عامل فلسطيني للعمل في إسرائيل، وهي العمالة الفلسطينية الأساسية التي تنقذ الإقتصاد الفلسطيني من بقائه تحت بوابة المساعدات، وبالتالي أدخلت هذه الفصائل الضفة تحت كاهل أزمة اقتصادية عميقة، ناهيك عن تجميد وتعقيد مسألة استعادة كامل الأموال المستحقة للسلطة الفلسطينية من الإيراداتالضريبية المعروفة بــ"المقاصة". فمسألة السلاح هي أصلاً خارج نطاق أدنى مقومات فكرة المقاومة، ناهيك عن ارتباط السلطة الفلسطينية بمواثيق دولية، تلزمها أن تحفظ الأمن بحيث أن لا تكون هناك قوى خارجة عن السيطرة، تعمل على تنفيذ مصالح خاصة، كانت ولا زالت نتائج هذا السلاح بمثابة انتكاسة فلسطينية داخلية، على المستوى البشري والمادي، وهي أيضاً على المستوى الخارجي بمثابة رسالة ليست في مصلحة أحد، مفادها بأن السلطة الفلسطينية غير قادرة على الحفاظ على الأمن داخل أماكن سيطرتها، ما يعزز من وجهة النظر الإسرائيلية بأن السلطة ليست مؤهلة لعملية سياسية كاملة.
في أبسط معايير المقاومة في كل الأمم، لم نشاهد أطفالاً بعمر الخامسة عشرة يستعرضون حمل السلاح في الطرقات، ما يظهر المشهد الفلسطيني أمام العالم أنه لا يختلف عن عمليات تجنيد الأطفال التي تحدث في أماكن عديدة من العالم، حيث يختفي القانون، وتنحني البشرية مستاءة لمشاهد انهيار القيم الإنسانية. فالمخيمات الفلسطينية بين الشوارع الضيقة والأماكن المحدودة لا يمكنها إنتاج مقاتلين بمقاييس الحروب المعروفة، وكل ما كان يجري في مخيمات الضفة مجرد عمليات استعراضية في الطرقات والشوارع، واشتباكات عبثية لا تخضع لمنطق الحروب، سرعان ما تنتهي بتوغلات إسرائيلية كبيرة، تعيد مشهد الموت والدمار.
هناك إشكاليتان، الأولى في النخب الحزبية، والذين هم شركاء في الترويج لمايسمى محور المقاومة، فهذا المحور يرى في أي عملية سياسية نهاية لمبررات وجوده، وبالتالي تدفع هذه الأحزاب بكامل قواها لاستمرار تجنيد الشبان الصغار وحتى من هم دون الثامنة عشرة لكي يكونوا في صفوفها، في مشهد يذكرنا بما حدث في مخيمات سوريا عندما أصبحت فكرة مبررات وجود الفصائل الفلسطينية في دمشق على المحك، ما دفعها لتجنيد مئات الشبان، وصولاً لأطفال في سن 13 سنة، لا تزال شواهد قبورهم في مخيمات سوريا تروي قصة بوس التبعية السياسية، خصوصاً في أعوام 1987 وما بعده، وهنا بالضبط يجري تكرار المشهد، ولكنه ليس من خلال جغرافيا جنوب لبنان بقدر ما هو جغرافيا مخيمات ضيقة وجدران محدودة.
الإشكالية الثانية هي في لعبة الإعلام الشعبوي المساند، وبعض المنصات الإعلامية الكبرى التي باتت تستغل انتشارها لتمرير رسائل مبنية علىالتحريض الذي يصل حدود الدفع نحو مواجهة أهلية داخلية قد يكون لها آثار كبيرة على المشهد الفلسطيني.
المسألة الحزبية اليوم في الساحة الفلسطينية أمام اختبار حقيقي، بين أن تستمر هذه الأحزاب في تقديم خدمات خارجية تؤدي في النهاية إلى مزيد من الكوارث في الضفة، وبين أن يكون هناك هموم وطنية حقيقية، تهدف إلى تجنيب الشارع الفلسطيني كارثة يجري الاعداد لها بـــليل، من خارج المشهد الفلسطيني. فما يتعلق بمخيم جنين هو مخيم خاضع للسلطة الفلسطينية ومن حقها وضع يدها على كل قطعة سلاح فيه، وخارج نطاق القانون في كامل الضفة، وأما محاولة مساواة السلطة الفلسطينية بأنها هي من يمنع المقاومة في الضفة، فللمقاومة أوجه، والمقاومة السلمية هي أكثر جدوى في اختلال موازين القوة، فالمعادلة اليوم هي، أن لا تصبح الضفة غزة ثانية.